بعدما أنهت تركيا فترة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان عن حكومته الجديدة التي ستعمل على مدار خمس سنوات مقبلة في إدارة البلاد، والتغلب على المشاكل التي تواجهها، خصوصاً ما يتعلق باستمرار الاستقرار ومعالجة الاقتصاد، ومواصلة تصفير المشاكل مع دول الجوار، في ظل الحفاظ على الثوابت السابقة وفق ما يفهم من تشكيلة الحكومة الجديدة.
أردوغان كشف، مساء السبت الماضي، عن حكومته المكونة من 17 وزيراً ونائباً واحداً للرئيس، من دون تشكيل وزارات جديدة. وبدلاً من ذلك أجرى تغييراً على معظم أسماء الحكومة السابقة، ولم يحافظ سوى على وزيري الصحة فخر الدين قوجة والثقافة والسياحة محمد نوري أرصوي، اللذين لم يترشحا للانتخابات البرلمانية.
وكان الرئيس قد رشح 15 وزيراً من الحكومة السابقة للبرلمان، نجح جميعهم في الدخول للبرلمان الجديد. واللافت كان استعانة أردوغان ببعض وجوه “الحرس القديم” في الحكومة الجديدة، مثل محمد شيمشك الذي عاد إلى وزارة الخزانة والمالية، ووزير الرياضة عثمان أشقين باك.
كما أن نائب الرئيس جودت يلماز من القيادات الحزبية المعروفة. أما وزارة الخارجية فتسلمها رئيس المخابرات هاكان فيدان، وكانت الأوساط تترقب ذلك وفق تسريبات سابقة، ولم يشكل تكليفه مفاجأة للرأي العام.
مسار اقتصادي جديد
ومن المتوقع أن تنتهج الحكومة مساراً جديداً في الاقتصاد، خصوصاً مع تصريحات وزير المالية الجديد محمد شيمشك، عند استلامه منصبه، أن “تركيا لم يعد لديها من خيار سوى العودة إلى أرضية واقعية”، في ظل معطيات تشير إلى منحه صلاحيات واسعة لمواجهة التضخم وارتفاع الأسعار وعدم استقرار سعر الصرف، وتعديل الرواتب والأجور.
ومن المعلوم أن الخلاف الوحيد بين أردوغان وشيمشك هو مسألة النظرة حول سياسة الفوائد، إذ يدافع الرئيس عن خفض الفوائد كرافعة للاقتصاد، فيما يرى شيمشك بأن الفوائد ترفع وتخفض بحسب التطورات الاقتصادية.
وشيمشك خبير اقتصادي سابق لدى مؤسسة “ميريل لينش” الأميركية، سبق أن شغل منصب وزير المال (2009-2015) ثم منصب نائب رئيس الحكومة للشؤون الاقتصادية (حتى عام 2018). ويبدو أن أردوغان يعوّل بشكل كبير على الفريق الاقتصادي لمعالجة الوضع القائم، بدءاً من نائبه ووزير المالية، مروراً بوزير التجارة عمر بولات، وهو رجل أعمال، وبقية الوزارات المعنية.
تسليم الخارجية إلى فيدان
أما منح وزارة الخارجية لرئيس جهاز المخابرات هاكان فيدان، وهي الوزارة التي من مهامها تأسيس العلاقات مع الدول الأخرى وتطبيعها، فلم يكن تطوراً مستغرباً، خصوصاً أن فيدان ليس غريباً عن السياسة التركية الخارجية، وهو مقرب من أردوغان وقادر على تنفيذ المهام المطلوبة، ويمتلك الأسرار جميعها، إضافة إلى أنه متخصص في العلاقات الدولية، ولكن ليست له أي لقاءات أو تسجيلات، ومعروف أنه يمتنع عن التصريحات، فيما مهامه الجديدة تتطلب بناء التواصل.
ونقلت وكالة “فرانس برس” عن مصدر دبلوماسي غربي أن فيدان هو “الرجل الموثوق” لدى أردوغان “منذ سنوات”، كما أنه الشخص الذي يقود المفاوضات مع العالم العربي ومصر والإمارات وليبيا وكذلك النظام السوري.
وزارة الدفاع استمرت كما في السابق بيد وزير جاء من هيئة الأركان العامة، وهو قائد الأركان يشار غولر، في استمرار لنهج سلفه خلوصي آكار الذي أيضاً كان رئيس هيئة الأركان قبل توليه الوزارة. وبالتالي فإن الوزارات السيادية ذات القوة على الصعيد المالي والعسكري والخارجي، كلها كلّف بها أردوغان أسماء قوية ذات ثقة كبيرة.
تهدئة على الصعيد الداخلي
وعلى الصعيد الداخلي، فإن تسليم وزارة الداخلية لوالي إسطنبول علي يرلي قايا، تبشر بمرحلة أكثر هدوءاً واتزاناً في الداخل، إذ كان الوزير السابق سليمان صويلو معروف بحدته في الإدارة.
وعلى الرغم من نجاحه على صعيد مكافحة التنظيمات المسلحة المحظورة، إلا أنه كان يعاني من انتقادات المعارضة. كما سبق أن طُرحت ملفات فساد بحقه من قبل رجل المافيا سادات بيكر وأثرت على سمعته. كذلك وزارة العدل إذ تم تعيين وزير جديد لها يلماز تونج، كما وزارة التربية الوطنية بتعيين يوسف تكين، وكلها مؤشرات عن ضخ دماء جديدة وربما استراتيجيات وخطط إصلاحية في الفترة المقبلة.
تولى 3 وزراء أتراك مناصبهم بعد أن كانوا نواباً للوزراء، وهم الزراعة والغابات إبراهيم يومقلي، والطاقة والموارد الطبيعية ألب أرسلان بيرقدار، والصناعة والتكنولوجيا محمد فاتح قجر (الصورة). واستمرت العادة بتولي وزارة شؤون الأسرة سيدة، وهذه المرة كانت من نصيب ماهينور أوزدمير غوكطاش، وهي من مواليد بلجيكا ودرست خارج تركيا، وهي أول عضوة محجبة في البرلمان الأوروبي، وكانت سفيرة تركيا في الجزائر سابقاً.
أولويات الحكومة للسنوات الخمس المقبلة
وحدد أردوغان في كلمته، السبت الماضي، بعد أدائه القسم الدستوري رئيساً للبلاد، أولويات الحكومة لمدة خمس سنوات مقبلة، إذ قال إن الشعب التركي عبّر عن موافقته على رؤية “قرن تركيا” التي تعتبر بمثابة تتويج للمئوية الثانية للجمهورية.
وشدد أردوغان على أن حكومته ستعمل لتفعيل رؤية “قرن تركيا” خطوة بخطوة خلال السنوات الخمس المقبلة. وقال إن نتائج الانتخابات الأخيرة تحمل في طياتها معان عديدة، وإن الشعب التركي طلب المضي قدماً، ومواصلة العمل وتنفيذ المشاريع والخدمات.
وأشار إلى أن تفعيل رؤية “قرن تركيا” لن يتحقق بمشاهدة الأحداث فحسب، بل عبر توسيع نطاق تأثير الدبلوماسية المبادِرة والإنسانية. وبيّن أن تركيا ستكون أكثر إصراراً وشجاعة ونشاطاً في كل مجال خلال الحقبة الجديدة، سواء لجهة مكافحة الإرهاب داخل أراضيها وخارجها، أو حماية حقوقها وحقوق أشقائها في “الوطن الأزرق” (المياه الإقليمية)، ورفع سقف إنجازاتها في الاقتصاد والتجارة والأمن والديمقراطية وغيرها.
تركيبة الحكومة جاءت متوازنة
وعن الحكومة الجديدة، قال الصحافي إلياس كلج أصلان، إن “تركيبة الحكومة جاءت متوازنة، جمعت الخبرة مع التجديد، وأردوغان أظهر أنه لا يزال يرغب بضخ الأسماء الجديدة في الحكومة، ولم يتمسك بالوزراء السابقين الذين كانت لهم نجاحات أيضاً في فترة حكمهم”.
وأضاف أن “تولي فيدان وزارة الخارجية كان متوقعاً وفق التسريبات، ولكن هذا الخيار يعتبر بالنهاية خياراً مفاجئاً، فلماذا الاعتماد في الخارجية على رجل مخابرات؟”، متابعاً “أغلب الظن أن السبب هو امتلاك فيدان معظم أسرار السياسات الخارجية والأمنية لتركيا، ووفاؤه لأردوغان، ولاستكمال السياسة الخارجية، وبدا واضحاً أن أردوغان لم يعد قادراً على التضحية بأي نائب لكي لا يفقد الأغلبية البرلمانية”.
وشدد على أن “أردوغان يرغب بأن يكون الاقتصاد والسياسة الخارجية أبرز محددات المرحلة المقبلة، فالاقتصاد يعاني منذ سنوات، وهو ما أثّر على أصوات حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة، على الرغم من فوز أردوغان بالرئاسة، وهي آخر فرصة له ويرغب بتتويج فترة حكمه، لذا فإن الاقتصاد والسياسة الخارجية بحاجة إلى عمل وجهود. فالاقتصاد بحاجة لاستقرار في المحيط والعلاقات الدولية”.
من جهته، قال المحلل السياسي محمد جيرين، إن “الحكومة الجديدة كانت مفاجئة بالنسبة لي لأنه كانت هناك توقعات بإنشاء وزارات جديدة وتعيين أكثر من نائب للرئيس، لكن أردوغان عمل على تعيين أسماء جديدة في المناصب من أجل التجديد، فيما وضع أسماء لها وزنها في الوزارات المهمة”.
وأضاف “الواضح أن أردوغان لا يرغب بالتفريط بالنواب في البرلمان، ولهذا لم نشهد عودة الوزراء السابقين مثل وزير الداخلية سليمان صويلو ووزير الإنشاءات والعمران مراد قوروم، ولكن الأسماء الجديدة بالتأكيد ستعمل وفق توجيهات أردوغان”، متابعاً “تبقى السياسات الاقتصادية هي الأبرز والأهم في الفترة المقبلة، وستكون الأنظار موجهة للوزير شيمشك”.
وختم أن “الحكومة الجديدة متوازنة وواضحة المعلم ستطبق سياسات أردوغان، ومن المؤكد أن المحدد الاقتصادي هو العامل المهم ويجب مراقبة التطورات فيه، وإن كانت ستحصل مواجهات بين أردوغان وشيمشك في المستقبل”.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]