لا تزال الهوية من القضايا التي تؤرق المجتمعات الإنسانية، ومنها المجتمعات العربية، ولئن كانت الهوية في اللغة مصدرا صناعيا مشتقا من الضمير المنفصل "هو"؛ الضمير الذي يدل على حقيقة الذات وتميزها من غيرها، فإنها في الاصطلاح لم تبعد كثيرا عن المعنى اللغوي، غير أن ذلك لم يعفها من الوقوع في التشابك والتعقيد، فالدكتور عبد الكريم بكار يعرف الهوية في كتابه (تجديد الخطاب الإسلامي) بأنها "مجموعة من السمات والخصائص والرموز والذكريات المحفوظة من التاريخ المشترك، بالإضافة إلى الطموحات والتطلعات الموحدة والمترجمة للشعور بوحدة الهدف والمصير".
وهذا التميز في الخصائص يشبه بصمة الإنسان التي لا يشاركه فيها أحد، بهذا التعبير الجميل شبه الدكتور محمد عمارة الهوية في كتابه (مخاطر العولمة على الهوية الثقافية)، إذ قال إن "هوية الشيء ثوابته التي لا تتجدد ولا تتغير، وتتجلى وتفصح عن ذاتها، دون أن تخلي مكانتها لنقيضها طالما بقيت الذات على قيد الحياة، فهي كالبصمة بالنسبة للإنسان يتميز بها من غيره، وتتجدد فاعليتها، ويتجلى وجهها كلما أزيلت من فوقها طوارئ الطمس، إنها الشيفرة التي يمكن للفرد عن طريقها أن يعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها والتي يتعرف إليه الآخرون بوساطتها باعتباره منتميا لتلك الجماعة".
وذهب عامة الباحثين في قضية الهوية إلى أن هوية أي مجتمع من المجتمعات ترتكز إلى ركائز عدة، أهمها: الاعتقاد، واللغة، والثقافة، والتراث، والتاريخ المشترك.
وعلى الرغم من الوضوح الظاهر في التعريفات، فإن الهوية تبقى مسألة مركبة وحركية دينامية، فالإنسان يمكن أن ينتمي إلى كثير من الدوائر الهوية المتداخلة المتشابكة، فعلى سبيل المثال: إذا أردنا أن نذكر دوائر هوية شخص ما من سورية، فيمكننا أن نقول إنه: سوري، وآسيوي، عربي أو كردي، وهو مسلم أو مسيحي، وغير ذلك من الدوائر الهوية الأخرى، أضف إلى ذلك تراجع الانتماء الهوياتي -إذا جاز التعبير- أو تقدمه في دائرة ما أكثر من غيرها بشكل ثابت دائم، أو في مرحلة زمنية معينة وفقا للظروف المختلفة المحيطة به.
لا يشك أحد في أهمية اللغة للإنسان في مجالات الحياة جميعها، إذ تؤثر في واقعه الفكري والسلوكي طولا وعرضا، لكن هذا الأمر واجه كثيرا من الإشكالات المنهجية التي دامت ردحا من الزمن، فدراسة اللغة -أي لغة- ينطوي حصرا تحت مظلة "علم اللغة" الذي بقي يرتكز عبر قرون عدة على مبنى اللغة الذي يقوم عند الحديث عن اللغة العربية على الأصوات والنحو والصرف والبلاغة، وبهذا التصور الحصري يمكننا اعتبار اللغة "نظاما مغلقا" (closed system)، أي أن السياق الاجتماعي لم تكن له أهمية حقيقية في دراسة اللغة، وكأنها كائن ثابت وجد في آن ما، وتحنط عبر العصور وتقولب.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]