في الحادي عشر من يناير/كانون الثاني 2024، وقفت المحامية عديلة هاشم أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، مقدِّمة مرافعتها التي اشتهرت حول العالم ضد جرائم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مُعبِّرة عن موقف جنوب أفريقيا، الدولة التي تطوعت منفردة لمحاكمة الكيان المحتل للمرة الأولى في تاريخه المخضب بالدماء. وقد أثارت القضية تساؤلات حول أسباب هذا التضامن من جنوب أفريقيا، إذ يبدو للناظر غير المدقق أن البلد الواقع في أقصى جنوب القارة السمراء لا يشارك فلسطين أيَّ روابط تاريخية أو لغوية أو دينية أو قومية. غير أن رفقة واحدة بقيت تجمع البلدين برحم لا يذوب: رفقة الفصل العنصري.
صَعَد المستوطنون ذوو الأصول الأوروبية إلى سدّة الحكم بجنوب أفريقيا بعد استقلال شكلي عن بريطانيا عام 1948، وقادوا لأكثر من أربعة عقود واحدا من أشد أنظمة الحكم عنصرية في التاريخ الحديث، حيث انتهجوا سياسة الفصل العنصري أو الجزر المنعزلة، التي شرَّعت للفصل التام بين البيض/المستوطنين والسود/الأصليين في كل مناحي الحياة. وقد بدأت تلك السياسة بالاستيلاء على أغلب أراضي السكان الأصليين، بما فيها من خيرات وموارد طبيعية، مع إجلاء أصحاب الأرض نحو جغرافيا ضئيلة شحيحة الموارد، وفوق هذا حرمانهم من ممارسة أي حقوق سياسية أو اجتماعية، فلا حكم ولا انتخاب، ولا تعليم جيد، ولا مواصلات عامة، ولا رعاية صحية آدمية، ولا أي من مقومات الحياة التي تنعَّم بها المستوطنون. كان أصحاب الأرض مقهورين بتضييق أمني تعسفي، ومُغرَّرين باستقلال وهمي تحت حكومة متورطة في التنسيق الأمني مع الاحتلال الجديد .
لعلك قد أدركت الشبه بالفعل، لكن للتأكيد، يمكننا أن نستعير بعض الأسماء والمصطلحات من حكاية جنوب أفريقيا، وأن نستبدل باسمها اسم فلسطين، وسنتعرَّف من فورنا على فداحة الجرم الإسرائيلي. فقد سلب الكيان الصهيوني الإحلالي 78% من أرض فلسطين التاريخية عام 1948، ثم تغول على ما تبقى منها عام 1967، فحاصر، واستوطن، وأباد. وفي الوقت الذي قدَّم فيه الاحتلال الإسرائيلي واحدا من أشرس نظم الفصل العنصري في تاريخ الإنسان، صنع من نفسه آلة تنبيه وتذكير دائم لأهل جنوب أفريقيا بما عانوه على يد الرجل الأبيض.
لأجل هذا، ولأجل الدعم الإسرائيلي الواسع لحكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا . وقفت عديلة هاشم أمام المحكمة لتُقاضي مَن يبيدون الفلسطينيين، ضحايا الفصل العنصري مثلها، ولتمنحنا طرف الخيط كي نذهب بعيدا في البحث عن تاريخ الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وفلسطين كلتيهما.
في كتابه "أرض جوفاء"، حاول الأكاديمي والمعماري الإسرائيلي إيال وايزمان وصف المشهد الاستيطاني العنصري في الضفة والقدس، فلم يجد وصفا لما تقوم به حكومته ومستوطنوها أنسب من "الأبارتايد" (Apartheid)، ذلك المصطلح الذي يُستخدم أصلا لوصف الفصل العنصري داخل الأراضي المحتلة عام 1948، ولوصف ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية تجاه فلسطينيي الداخل. لكن الباحثة إسلام شحدة العالول . قد ضمَّت إلى هذين النمطين (في الداخل المحتل وفي الضفة والقدس) نمطا آخر ثالثا من الفصل العنصري يتجسد في الحصار الصهيوني لقطاع غزة والمُهَيمِن على سمائها منذ عقود.
قبل تفصيل كل نمط من الأنماط الثلاثة، يجدر بنا السؤال: ما الفصل العنصري؟ وما الذي يجمع بين نموذجَيْه الإسرائيلي وجنوب الأفريقي، وما الذي يفرقهما؟
في هذا الصدد، نجد أن بدايات المصطلح تعود إلى لغة الأفريكانز (لغة الأوروبيين البيض) في جنوب أفريقيا، وهو يشير إلى الفصل العنصري القسري بين مجموعات سكانية تقع تحت سلطة واحدة، لكن هذه السلطة تفاضل بين هذه المجموعات السكانية على أساس عنصري . وبهذا المفهوم أضحى نظام الفصل العنصري نظاما سياسيا قائما بذاته، مثله مثل النظامين الديمقراطي والاستبدادي. ورغم التشابه الكبير بين تاريخ الاستيطان في جنوب أفريقيا وفلسطين، فإن الاستيطان الصهيوني تفوق في سياساته العنصرية بإضافة تحسينات فريدة.
أخذ نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في الظهور مع استقلال البلاد عن بريطانيا عام 1930، ثم تبلور عام 1948 بحملة "الحزب الوطني" للانتخابات، التي أتت تحت شعار "حماية الأمة البيضاء من ثقافة السود"، فنجح الحزب وشرَّع برلمانه، الذي انتُخب أعضاؤه من البيض وحدهم، سياسة الفصل العنصري في مختلف مناحي الحياة. وقد قامت تلك السياسة على أربع ركائز رئيسية، أولها الفصل الجغرافي بين الأعراق، حيث سكن البيض 87% من الأراضي العامرة بمناجم الذهب والألماس والموانئ والمطارات والخدمات، فيما هُجِّر ملايين السود قسريا إلى مدن الصفيح بعد نهب ممتلكاتهم وثرواتهم، وهي مدن سُمّيت بـ"البانتوستانات"، ولم تكن تحتوي على شيء من الموارد والخدمات.
تمثَّلت الركيزة الثانية في الفصل الديموغرافي بين البيض والسود، وهو ما حظر على السود الخروج من مواقعهم المعزولة إلى أراضي البيض دون تصريح مرور يثبت الغرض من الخروج، وإلا فإن السجن كان المصير المحتوم لمَن يخالف التعليمات، وقد اعتُقِل بالفعل آلاف الأفارقة السود بدعوى مخالفتهم قوانين الفصل الديموغرافي .. ثم جاءت الركيزة الثالثة، بوصفها نتيجة منطقية، بالفصل في كل مناحي الحياة، في المدارس والمطاعم وقاعات السينما والمستشفيات والمواصلات والوظائف ودور العبادة وحتى المقابر. تلقى أبناء السود في البانتوستانات تعليما متواضعا لا يؤهلهم إلا للوظائف الخدمية البسيطة ذات الأجور الزهيدة. وأخيرا، كان كل هذا مؤطرا تحت حماية الركيزة الرابعة وهي الفصل السياسي، فلا ترشيح ولا انتخاب إلا للبيض، وفوق هذا مُنِح السود استقلالا اسميا في أقاليم خاصة برؤساء منهم وأناشيد وطنية جديدة، ولكن تحت سيادة الحكومة المركزية للبيض، ما يعني أن ولاء حكومات البانتوستانات كان خالصا للحكومة العنصرية، وأن الاستقلال لم يكن سوى استقلال اسمي .
ورغم تشابه السياسات العنصرية بين إسرائيل ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ترى العالول أن تصنيف دولة الاحتلال بوصفها نظام فصل عنصري فقط يختزل الكثير من حقيقة الكيان الاستيطاني القائم على فكرة مركزية لا تتغير: محو الفلسطينيين واستبدال المهاجرين اليهود بهم. وبناء على هذا، لا يُمثِّل الفصل العنصري إلا أحد أضلاع المشروع الاستيطاني الذي لا يتوقف. وعن التشابهات بينهما، تذكر العالول أن القواسم المشتركة بين الفصل العنصري الأفريقي ونظيره الصهيوني تتمثَّل في البُعد الاستيطاني-الإحلالي للنظامين، وفي ادعاء كلٍّ من النظامين أنه الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، سواء كان ذلك في القارة الأفريقية أو في الشرق الأوسط، وكذا في الأيديولوجية العنصرية التي جعلت من البيض عِرقا متفوقا على السود، تماما كما تجعل اليوم العقيدة الصهيونية من سكان إسرائيل من اليهود شعب الله المختار لسحق الفلسطينيين. أما آخِر تلك التشابهات فيتمثَّل في التشريع البرلماني للفصل العنصري، الذي مرره الكيان المحتل عام 2018 بإقرار قانون "الدولة القومية" الذي يجعل من غير اليهود مواطنين من الدرجة الثانية في أفضل الأحوال.
ولكن ما تفرَّد به الفصل العنصري الصهيوني، متفوقا على نظيره الأفريقي، يظهر في حجم الإجرام المادي والجسدي الذي يتعرض له الفلسطينيون، بحسب ما ذكره البروفيسور والخبير القانوني جنوب الأفريقي جون دوغارد . حول الطبيعة اللوجستية والخدمية في كلٍّ من البانتوستانات والأراضي الفلسطينية المحتلة. فقد هدف نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي للبانتوستانات، فأنشأ لها المدارس والمستشفيات والطرق الممهدة وكل ما يكفل لساكنيها حياة طبيعية، حتى وإن كانت رديئة الجودة، بينما يحرم الاحتلال الصهيوني ساكني الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة من هذه الخدمات الحياتية البسيطة، فضلا عن بناء جدار فصل عنصري، وتبنّي سياسات النهب والهدم والقصف. كل هذا وأكثر يجعل من النمط الإسرائيلي نظام فصل "أكثر عنصرية" من نظيره الذي انتهى بجنوب أفريقيا قبل ثلاثة عقود، وأشد فتكا بالفلسطينيين في كل مناحي حياتهم.
ضرب الاحتلال حصاره الجوي مع إغلاق مطار غزة الدولي عام 2000 عقب اندلاع انتفاضة الأقصى، قبل أن يقوم بقصفه عام 2001، ثم عامي 2008 و2009 والأعوام التي تلتهما. فانهار المطار بالكلية وانهارت معه أحلام الاستقلال الجوي والاقتصادي الغزاوية، وانقلب منفذ الحرية الوحيد إلى مكب نفايات كبير. وحتى البحر جعله الاحتلال سورا آخر من أسوار الحصار حينما أعاق عملية بناء ميناء غزة، رغم الاتفاقات الموقعة مع السلطة الفلسطينية وتعهُّد المنظمات الدولية ببنائه، فقد قصف الاحتلال عام 2001 منشآت تابعة للشركات المنفذة، ما أدى إلى انسحاب هذه الشركات وتعليق عملية البناء التي كانت تحمل مستقبلا اقتصاديا وتنمويا كبيرا للقطاع.
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]