يشكو لي بعض الشباب الصحفيين والصحفيات الضغوط التي تمارس عليهم من جانب رؤسائهم في الصحف الخاصة التي يعملون بها، حين يطالبونهم بالانحياز إلى طرف دون آخر في تغطيتهم الإخبارية للأحداث التي تشهدها مصر. وهي ضغوط بدأت بالتلميح والإيحاء في مرحلة، ثم أصبحت تمارس صراحة وعلنا في الأشهر الأخيرة.
في الأسبوع الماضي وحده زارني سبعة من المحررين والمحررات، لا لكي يبثوا شكواهم فقط. ويسألوني رأيي فيما عليهم أن يفعلوه، ولكن أيضا لكي يعبروا عن حيرتهم ويبحثوا عن حل لمشكلة اتهامهم بأنهم من الإخوان لمجرد أنهم يحاولون أداء عملهم المهني بصورة متوازنة وغير منحازة.
وقد أكدوا إلي وأقسم أحدهم بــ»الثلاثة» على أنه لا علاقة له بالإخوان ولم يلتق أحدا منهم في حياته.
سجلت خلاصة التوجهات التي تحدثوا عنها، ووجدت أنها تطالبهم بما يلي:
- التركيز على أن الإخوان معتدون وأن الآخرين ضحايا
ــ تصوير اللافتات التي تندد بالرئيس مرسي وتتحدث عن حكم المرشد
ــ التأكيد على عدم شرعية الرئيس وبطلان تعيين النائب العام
ــ الإشارة المستمرة إلى بطلان الجمعية التأسيسية والتركيز على أن الدستور وضعه فصيل واحد
ــ المبالغة في نطاق مظاهرات الأقاليم وفي تقدير أعداد المشاركين فيها
ــ التركيز على استحواذ الإخوان على السلطة وتغلغلهم في مفاصل الدولة
ــ اضطهاد الإخوان للأقباط وعداؤهم المرأة
ــ الإلحاح على وجود أزمة بين الرئاسة والجيش والمطالبة بنزول الجيش إلى الشوارع وتوليه السلطة
ــ وجود أزمة بين الإخوان والسلفيين
ــ اتهام «حماس» بالتآمر على مصر والإعداد لتخريب المنشآت العامة فيها
ــالإلحاح على أن الأنفاق تمثل خطرا على مصر ومصدرا لتهريب السلاح إليها
ــ الإصرار على أن «حماس» هي المسؤولة عن قتل الـ16 ضابطا وجنديا مصريا في رفح
ــ تلميع قيادات جبهة الإنقاذ ومقاطعة قيادات الإخوان ـ
ـ إلى غير ذلك من الإشارات التي تصب في مجرى تسييس الأخبار وتلوينها بحيث تعبئ القارئ لصالح اتجاه وتحرضه ضد اتجاه آخر.
حدثوني عن مناقشات أجروها مع بعض المسؤولين عن الصحف حول أهمية التوازن في عرض الرؤى والحياد في تقديم الأخبار،
ونقلوا لى قول أحد رؤساء التحرير إن الحياد ليس ممكنا في المواجهة الراهنة،
وادعاؤه أن ذلك موقف مثالي أكثر من اللازم يمكن احتماله في بلد آخر وفي ظروف أخرى.
وقد استغربت ما سمعت واعتبرته تقويضا لبديهيات نزاهة المهنة التي تؤكد أهمية الحياد في صياغة الأخبار وتقبل بالاجتهاد والاختلاف حين يتعلق الأمر بالرأي.
حدثوني أيضا عن أجيال المتدربين الذين يلتحقون بالصحف على أمل التعيين فيها، وكيف أنهم الأسرع في الاستجابة للتعليمات لإرضاء المسؤولين وإقناعهم بجدارتهم بالتعيين.
الأمر الذي يعني تشويه وتدمير تلك الأجيال وهي في المراحل الأولى للعمل.
أوقعنى الكلام الذي سمعت في مأزق، لأنني أعرف ما يجب عمله في هذه الحالة، على الأقل فيما خص ضرورة الانحياز إلى مبادئ المهنة وقيمها التي تحترم الخبر وترفض تسييسه والعبث فيه.
إلا أنني أعرف أيضا أن ذلك له ثمنه الذي قد يكون باهظا.
لذلك ظل السؤال الذي ظل يحيرني هو ما إذا كان هؤلاء الشبان والفتيات الحالمون بصحافة نظيفة مستعدين لتحمل الثمن أم لا. إذا ما استمروا في التمرد على تعليمات رؤسائهم.
وقد صارحتهم بحيرتي وبموقفي الذي التزمت به وبخبرتي في الأثمان التي يتعين على المرء أن يدفعها إذا أصر على أن يتمسك بقيم المهنة، فضلا عن استقلال الرأي.
أشفقت عليهم من ضراوة الاستقطاب وتحول الصحف إلى منشورات سياسية تتبنى موقفا واحدا وتقول كلاما واحدا كل يوم.
وكانت في ذهني طول الوقت التجربة الأخيرة لزميلنا الأستاذ أسامة غريب الكاتب المتميز الذي منع عموده اليومي في إحدى الصحف «الليبرالية» لأنه لم يكن منحازا مائة في المائة مع خط الجريدة التحريضي التي يعمل بها، فتوقف عن الكتابة ثم انتقل إلى منبر آخر احتمله مرة واحدة في الأسبوع.
إننا لسنا بصدد محنة يعاني منها الجيل الجديد من الصحفيين فحسب، ولكننا بصدد خطر يهدد المهنة في وطن تتناوشه المخاطر من كل صوب ويتراجع حلم ثورته يوما بعد يوم.
.......................
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]