اغلاق
اغلاق
  ارسل خبر

إضاءات على المنهج الفقهي للحركة الإسلامية - للشيخ رائد صلاح

 
الحلال بيـّن والحرام بيـّن، لكن بعضَه كان أظهرَ بيانا من بعض، فما ظهر بيانُه واشتهر، وعُلم من الدين بالضرورة لم يبق فيه شك، ولا يُعذر أحد بمعرفة أنه حلال محض إذا كان حلالا، وأنه حرام محض إذا كان حراما. فأما الحلال المحض فمثل أكل الطيبات من الزروع والثمار والأنعام، وشرب الأشربة الطيبة، ولبس اللباس الطيب، والاكتساب بعقد صحيح؛ كالبيع أو الميراث أو الهبة، والزواج بعقد صحيح. وأما الحرام المحض فمثل أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر ونكاح المحارم ولباس الحرير والذهب للرجال، ومثل الاكتساب المحرم؛ كالربا والميسر، وثمن ما لا يحل بيعه، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب ونحو ذلك. وما كان بيانه من حلال أو حرام دون ذلك فمنه ما اشتهر بين حمَلة الشريعة فبينوا حله أو حرمته -وإن خفي على غيرهم- ومنه ما لم يشتهر بين حمَلة الشريعة فاختلفوا في تحليله وتحريمه، وذلك لأسباب، منها: أنه قد يكون النص عليه خفيا لم يبلغ جميع حملة العلم، ومنها أنه قد يُنقل فيه نصان؛ أحدهما بالتحليل والآخر بالتحريم، فيبلغ طائفة من حملة الشريعة أحد النصين دون الآخر فيتمسكون بما بلغهم، أو يبلغ النصان معا دون معرفة تاريخ كل نص منهما، ما يتسبب في عدم معرفة الناسخ والمنسوخ. 
 
ومنها أنه قد لا يكون النص صريحا؛ وإنما يؤخذ من عموم مفهوم أو قياس فتختلف أفهام حملة الشريعة فيه. ومنه أن النص قد يكون فيه أمر أو نهي فيختلف حملة الشريعة في حمل هذا الأمر على الوجوب أو على الندب، وفي حمل هذا النهي على التحريم أو التنزيه. وقد تكون هناك أسباب أخرى للاختلاف أكثر مما ذكرنا. ولأن أسباب هذا الاختلاف ستبقى ولن تتوقف حتى قيام الساعة، ولأن مسائل الحياة التي تواجهنا كل حين -والتي نحن في أمس الحاجة إلى أن نتبين حلالها من حرامها- لن تتوقف ما دامت هناك طائفة مسلمة في هذه الدنيا يهمها أمر دينها وطاعة ربها ومعرفة الحلال من الحرام في كل ما يجد عليها، ولأن أهمية معرفة الحلال من الحرام في شؤون ديننا ودنيانا باتت علما ملحا في هذه الأيام؛ وإلا فقد نضل ونهلك. ولأن هذه المعرفة الهامة جدا هي علم -وأي علم- لا يجيده إلا أهل الاختصاص فيه، ولا يؤخذ إلا عنهم، وليس مشاعا مستباحا؛ يقول فيه كل لسان، ويكتب فيه كل قلم، وليس مهيض الجناح؛ يخوض فيه كل صاحب رأي بدافع الرأي ليس إلا، أو يخوض فيه كل أسير هوى بدافع الهوى ليس إلا، أو يخوض فيه كل صاحب عيب بدافع العيب ليس إلا، وقد جلس كل واحد منهم على أريكته يتمطى وهو يرتشف فنجان (إسبرسو) ويعض على سيجارته بشفتيه، ولأن علم أحكام الحلال والحرام بوصلة الأمن والإيمان والمشي السوي على صراط مستقيم، ومن زاغ عنه هلك، لكل ذلك فقد رأت الحركة الإسلامية أن واقع الحال الذي نعيشه يحتم علينا أن نحدد منهجا فقهيا شرعيا وراشدا نميز من خلاله الحلال من الحرام، والواجب من المندوب، والمستحب من المكروه، في مسيرة أبناء الحركة الإسلامية ومسيرة أنصارها ومسيرة كل أهلنا بدون استثناء، سيما ونحن نعيش في زمن قل فيه العلماء العاملون حملة الشريعة المخلصون الصادقون، وكثر فيه من بات يتصدى للفتوى بغير علم، ويتجرأ ويقول: هذا ما قاله أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وهذا ما أقوله أنا!! وهذا ما أفتى به المذهب الحنفي والمذهب المالكي والمذهب الشافعي والمذهب الحنبلي، وهذا ما أفتي به أنا!! 
 
وهذا حال خطير ومهلك كان قد حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال لنا: "من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل" (متفق عليه). وعندما قال لنا: "يتقارب الزمان ويُقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج" (رواه مسلم). والمشاهد للفضائيات يرى أن البعض من رجال ونساء قد ظهروا في هذا الزمان على شاشات التلفاز بغير علم، ويفتون حسب أهوائهم بدعوى التيسير على الناس، وكأنهم هم النموذج الذي يجسد ما حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال لنا: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا؛ فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلوا" (متفق عليه). ولأن الحركة الإسلامية تبنت المنهج الوسطي في فهم الإسلام وفي أساليب نصرة المشروع الإسلامي، فقد أصرت أن يقوم منهجها الفقهي الراشد والشرعي في أحكامه وفتاويه على اجتناب التنطع في الدين، وهو ما حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال لنا: "هلك المتنطعون" (رواه مسلم).. ومن هم المتنطعون؟! هم كما يقول الإمام النووي: "... الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم". وأصرت أن يقوم على تحديد المفاهيم التي فيها الاختلاف، وبيان مدلولها بدقة ووضوح يرفع عنها الغموض والاشتباه، ويحصنها بالفهم الشرعي الصواب بعيدا عن الجهل والهوى، وأن يسود التعاون وأدب الاختلاف أجواء الاختلاف بين أصحاب المذاهب الفقهية فيما اتفقوا فيه، ويعذر بعضهم بعضا فيما يسع الخلاف فيه، وهذا ما يلزم كل العاملين الصادقين لنصرة المشروع الإسلامي اليوم؛ اجتناب التكفير بلا مسوغ شرعي والحذر منه، لا سيما وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من رمي بعضنا بالكفر عندما قال لنا: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال، وإلا رجعت عليه" (رواه الشيخان). وهذا ما يستوجب من كل حملة الشريعة اليوم العاملين على نصرتها الذود عنها، واتباع الحوار بالحسنى، واجتناب المراء المذموم واللدد في الخصومة، وتجديد الصلة بين الفقه الإسلامي وبين الأمة المسلمة تجديدا يعزز الأخوّة في الله ووحدة القلوب، وإن وجد الاختلاف الفقهي بينهم. وما أجمل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المسلمون متفقون على جواز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون. ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين". وقد كان الإمام الشافعي -رضي الله عنه- يقول: "كنت أناظر الرجل وأدعو الله أن يظهر الحق على لسانه".
 
وقد أدركت الحركة الإسلامية، وهي تضع لبنات منهجها الفقهي، أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، وكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شيء. ولذلك فإن كل أعمال العاملين ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة، فتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشريعة موافقا لها فهو مقبول، ومن كان خارجا عن ذلك فهو مردود؛ سواء كان من العبادات أو المعاملات. ولذلك ترى الحركة الإسلامية أن من أهم الأهداف المطلوبة اليوم هو إحياء الحس الفقهي اليقظ؛ الذي يحرص أن يتحرى الحلال والحرام طلبا لمرضاة الله تعالى في نفوس أبناء الحركة الإسلامية وأنصارها، وفي نفوس كل الأمة المسلمة، وهو ضرورة ملحة لرد الاعتبار فورا إلى الفقه الإسلامي وإنقاذه من خطر جحود الجاحدين له، أو تلاعب المتلاعبين فيه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده". وروى يزيد الرقاشي عن أنس قال: "كانوا إذا صلوا الغداة قعدوا حلقا حلقا، يقرأون القرآن ويتعلمون الفرائض والسنن، ويذكرون الله تعالى".
 
لكل ذلك اتفقت الحركة الإسلامية على منهج فقهي راشد وشرعي، واتفقت على ضرورة تلقينه لأبناء الحركة الإسلامية، وإفشائه بين أنصارها وبين كل أهلنا عامة؛ حتى تتضح لهم معالم التحري عن كل فتوى فيما يجدُّ عليهم من شؤون دينهم ودنياهم. وإن أهم الخطوط الأساس لهذا المنهج الفقهي مستقاة من منهجية المجلس الإسلامي، والتي حددها المجلس في إحدى نشراته كما يلي: 
 
1. يعتمد المجلس الإسلامي للإفتاء في إصدار الفتاوى الخطية والشفوية -على حد سواء- المذاهب الأربعة، ولا يخرج عنها إلا بناء على قرار جماعي صادر عن أحد المجامع الفقهية الدولية؛ وبالدرجة الأولى المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ثم المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، ثم المجمع الفقهي الهندي، ثم مجمع فقهاء الشريعة في أمريكا، ثم المجمع الفقهي السوداني.
 
2. يعتمد المجلس الإسلامي للإفتاء في المسائل الفقهية المستجدة القرارات الصادرة عن المجامع الفقهية بحسب الترتيب السابق في البند (1)، ولا يتبنى فتاوى فردية إطلاقا.
 
3. إذا استجدت بعض المسائل ولا يوجد قرار لمجمع فقهي في المسألة فإن المجلس الإسلامي للإفتاء يبحث المسألة بشكل جماعي ويستشير دور الإفتاء والمجالس العلمية ومن يثق بهم من أهل العلم محليا وعالميا.
 
ومن الواضح أن المجلس الإسلامي للإفتاء جمع بهذه المنهجية الفقهية بين الأصالة والتجديد؛ فهو لم يخرق ما كان عليه جمهور الفقهاء قديما، وفي الوقت نفسه لم يغفل عن المستجدات والنوازل والضروريات الفقهية حاضرا. وحسما للفوضى والترف الفقهي والفكري فإن المجلس الإسلامي للإفتاء لم يقبل إلا الاجتهاد الجماعي، نظرا لما في الرأي الجماعي من التوفيق والرشاد والسداد. 

بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]

أضف تعليق

التعليقات

تعليقات Facebook