اغلاق
اغلاق
  ارسل خبر

قول في قصة الاطفال " الولد والبحر" للكاتبة القاهرة صباغ – عبد الحي

ما هو سر البحر؟!
 
شيء ما يكمن في كينونته يجعله مركز جذب فريد من نوعه! وإن كنا – نحن الراشدين – نرى فيه كل هذا الجلال وهذا الغموض، وقد نستطيع تفهم أبعاد العلاقة، بشكل أو بآخر، ما بين الانسان وبينه، فالحري متابعة مثل تلك العلاقة بينه وبين الطفل.
 
إذا، السؤال الأهم هنا: كيف ينظر الطفل إلى البحر؟!
 
على مثل هذا التساؤل، وغيره، لطالما أُصدرت إبداعات موجهة للأطفال – قصص وأغان ورسومات وغيرها. وكان يتمركز – كما نلاحظ – جلّها على الحدث – المغامرة، وعلى الـ أنا الإنسانية دون تدخل في المفهوم المقارن مع الـ هو البحر. 
 
وحتى في كتب عظيمة لكتّاب عظام تعاملت مع البحر من منطلق النفس الراشدة (الكبير) مثل: "الشيخ والبحر" لأرنست همنغوي و"عمال البحر" لفيكتور هوغو أو "موبي ديك" لهيرمان ميلفيل أو روايات كاتبنا الكبير حنا مينه وغيرها.. ما كان للمبدعين إمكانية الوصول إلى الكمال في فهم لغز العلاقة الفريدة ما بين الإنسان والبحر، فكيف، إذا، نقدم كل هذا للطفل؟!
 
هل هو موضوع شائك؟ نعم! وهل هو شائق؟ بالتأكيد!
 
ومن نصيبي كان أن أُهدى قصة أطفال تتناول هذا الموضوع الشائك – الشائق.
 
أعترف اولا أنه في البدء لم يجذبني الموضوع الذي قيل لي بأن الكتاب يتناوله، وإنما لفتني الإخراج المميز للكتاب. فهو كتاب كبير الحجم (وهذا مغر) يتميز بألوان تغلب عليها هيئة الدوائر التي تنبهك مسبقا: إحذر، فأنت أمام متاهة ما! وهو مغلف بجلد مقوى وواضح المعالم يحافظ على مسافة واضحة ما بين الإبهار البصري واحترام العقل.
 
لكن الأمر الآخر الذي شدني إليه هو غياب النص عن الغلاف، أي انه لا يحوي أي كلمة: بلا عنوان، أو اسم لمؤلف أو اسم لراسم.. ولا اية إشارة أو حرف.
 
وبسرعة علا السؤال فكري: ما السر هنا.. ما هذا الكتاب؟!
 
فتحته، فوجدت العنوان: "الولد والبحر"! تأليف القاهرة صباغ-عبد الحي، ورسومات مازن خليل عبد الحي.
 
إذا، هنا تكمن اللعبة: إنها قصة عن الولد والبحر! ودون أي تعريف في غلافها الخارجي.. وإنما دوائر لأجساد آدمية في دوامة حول مركز واحد تكوّنه الكرة الأرضية ونواتها البحر. وهذا بحد ذاته يفتح مجال الانتقائية لدى المتلقي بين المحيط الدائري الضام والمركز، وعملية التكامل في كونٍ يدور بتوافق وبلا توقف.
 
إنها المقاربة الأقوى والأعمق لوصل أضلاع مثلث حيوي وعجيب: كتاب – ولد – بحر!
 
أنت تحاول أن تطرح فكرة ما، فماذا تفعل؟ من حقك أن تطرحها هكذا مباشرة وبلا تحفيزات أو مقدمات، تماما كما يفعل الكثيرون. أو أن تقوم بحركة تستفز المتلقي وتحثه على الانفتاح والتهيؤ المسبق لما سيطرح أمامه.
 
إن تأخير العنوان ومحاولة سبر أغوار ما يقوله الغلاف يكوّنان نقطة مركزية تعمل على جلب الانتباه ورفع الجهوزية لاستقبال ما سيحويه الكتاب، وإشارة بليغة على ان النص رفيع وبحاجة إلى كل هذا التحضير والاستعداد. وعلى هذا تبني المؤلفة دفاعها المسبق أمام المتلقي بأن كل ما هو آت داخل الغلاف قد لا يفي الموضوع حقه وإنما يعرض لأمر كان وسيبقى لغزا على ما يبدو.
 
القصة مهداة إلى شخص ما: أمين اندراوس. لست أدري من هو.. لكن اسم أحد بطلي القصة – الولد هو أمين. وهذا قد يعطي إنطباعا بأن الفكرة مأخوذة من واقع حقيقي (حادثة غرق مثلا) أو محاولة للغوص في أعماق نفس أو فكر شخص بعينه. على كلٍ، الإهداء بحد ذاته يمنح الكتاب مصداقية الشخصنة لبطليّ القصة.
 
ماذا تقول القصة؟ باختصار شديد هي قصة ولد يحذّره الجميع من البحر لأنه "يأخذ الأولاد ولا يرجعهم". ولكن، وبمبادرة من البحر يتصادق الاثنان – امين والبحر- وتدور أحاديث طويلة ومعمقة بينهما إلى ان تنتهي بدخول الولد البحر "سابحا في أعماقه".. وإلى نهاية مفتوحة. فهل عاد أمين من رحلته أم لم يعده البحر، تماما كما قال له الآخرون بأنه "يأخذ الأولاد ولا يرجعهم"؟
 
إن عامل التشويق المبني بشكل متدرج وسلس، يلعب دورا هاما على مدى تطور الأحداث، من مرحلة المدخل الممزوج بتوتر التحذيرات إلى كم التساؤلات والتجارب التي يقوم بها الولد وكأنه يحاول جس نبض المحيط الاجتماعي من حوله وتفحص إمكانية كسر المحظور، حتى الدخول في التجربة الذاتية، وانتهاءا بالخاتمة المفتوحة الداعية إلى الزيادة في التفكر واستعمال العقل والخيال.
 
للقصة فاتحة، نعم ولا عجب! وهي دعوة ألخصها بجملة مقتبسة من الفاتحة الطويلة ذاتها: "أنت يا طفل هذا العالم، اسمح لنفسك ان تصمت عن الكلام، كي تسمع أنفاسك..".
 
إذا، الصورة، ومنذ اللحظة الأولى "الفاتحة" أصبحت واضحة جليّة ومناقضة تماما للمدخل المبهم – الغلاف المجهول. 
 
وهذا الأمر يمنحنا القدرة على إدراك ان الكتاب في نهاية الأمر يحمل في طيّاته عدد غير قليل من النقائض – الإبداعية الإيجابية- وجب القول.
 
اضطرني النص بعد الانتهاء من قراءته للعودة إليه ثانية.. إنه أعمق وأوفر فكرا مما كنت أظن، فالقصة تبدأ بالمقدمة التحذيرية، ثم الاندماج اللعبي لدى الأطفال، فوشائج الخلاف والاختلاف بين تصاعد وهمود وحتى التمازج النهائي.
 
البداية التحذيرية هي ككل البدايات. لقاء طفل بمحيطه الاجتماعي العادي، والتعليمات التربوية والتوجيهية التي لا تنتهي، والتي هي بالمعظم تأتي الطفل دون تفسير ودون مسوغات. يجب أن تفعل هذا لأنه هكذا يجب أن يكون.. نقطة. ودون أن يدرك الموجه بأن الطفل يذوت ما يُقال ويُطلب منه على شكل بناءات غير واضحة تتراكم داخله على ضبابيتها ليصبح هو ذاته -لاحقا- جزءا من تركيبة اجتماعية مبهمة تقلد ما كان وتنقله للاحقين.
 
ثم تخرج بنا القصة إلى الحيّز الطفولي الهام: اللعب. وهذه اللفتة الطيبة من المؤلفة التي لم تقفز عن فكرة التدرج الاكتسابي لدى الأطفال.. تفاجئنا بأن شريك اللعب هو في هذه الحالة البحر. أي النقيض الممنوع كما كان يتلقاه وينشأ عليه الطفل ذاته: إنها المواجهة.
 
وهي مواجهة بنيت على اللعب بين صديقين – نقيضين.
 
أبطال اللعبة معروفون. الأرض معروفة. واللعبة هي: الزقيطة. وعلى ما يبدو انها اللعبة الوحيدة المتاحة بين البحر والإنسان، وانها أكثر الألعاب الطفولية التي تحتمل فكرة النقائض: هروب – رجوع – صدام.
 
لعبة مفعمة بالحركة وبحيوية ومرح الأطفال. لكنها اللعبة الأكثر اقترابا من حقيقة جدلية الحياة الإنسانية: الحرية – التبعية.
 
وهنا ينثر البحر، ردا على تساؤلات صديقه أمين، أجوبة لا نهائية من الإيجابيات حول عطاءاته التي لا تنتهي، ويبتعد عن الإجابة عن سؤال واحد محير، الذي يمكننا تلخيصه بـ: "إذا، لماذا أنت تغدر؟!".
 
هل هذا اعتراف ضمني بأن لا جواب على كل سؤال ينطق به الطفل؟!
 
وهذا يتماهى مع لعبة الصيد اللطيفة التي يدعو البحر صديقه أمين ليلعبها. صيد سمكة بواسطة رمي حجر، حيث تكون السمكة في الحقيقة في مكان آخر غير المكان الذي يظهر للناظر عليه، وهذا لسبب علمي بحت – انكسار الضوء، رميا وراء إيضاح حقيقة ان الأمور لا تكون دوما على ما تبدو عليه.
 
وكذا يكون الحال مع الرسم والمحو والبناء والهدم بواسطة الرمال وما عليها من أشياء. 
 
إذا، من يملك من وماذا؟! ولمن الأحقية في تطور الأشياء!!
 
الصورة التناقضية لتنشئة الطفل تتماثل وتتكامل أمامنا، الأمر الذي يودي بأمين بأن يواجه صديقه البحر بأنه: "لا يتصرف كصديق" ثم لتتطور المواجهة إلى:" لست صديقي".
 
وهكذا، ما بين لعب وجد ومهادنة وصدام، يتعرف أمين إلى حقيقة الأشياء المبهمة:" أمواجك تعطي، أمواجك تأخذ". إنه شعار استمرارية الحياة.. إنها النقائض، التي ما أن تذوت تماما حتى يظهر التفهم والإدراك والاشتياق، ومن ثم التعانق والخوض في أعماق اللجة الظاهرة للعيان على شكل"شارع ذهبي" دون أن ينتهي السؤال الأبدي:"لماذا يتصرف البحر هكذا؟".
 
لست خبير تربية، لكنني أدرك تماما ان قصة "الولد والبحر" للمؤلفة القاهرة صبّاغ عبد الحي تطرح مسألة غاية في الأهمية، ممكن تلخيصها بالسؤال التالي: كيف ينظر الطفل إلى العالم الذي يدخله، أو كيف نحفز الطفل على مواجهة اعتمالاته وتساؤلاته النفسية (الأصداء بحسب المؤلفة) والتعامل معها؟
 
لا أدري لأية فئة عمرية يصلح هذا النص، لكنه حتما لا يلائم جيل الطفولة المبكرة، وعلى أي  حال من المؤكد أن أطفال السابعة فما فوق سيكونون أكثر تفهما واندماجا مع نص وموضوع متطور كالذي تقدمه هذه القصة الممتعة. وممكن للقصة أن تكون في متناول أي طفل تجاوز هذا العمر لما فيها من مشاهد الجذب والتشويق التي يريدها وربما عايشها الطفل في ما سبق من حياته. ولعل مواكبة راشد للطفل ساعة قراءتها تعطي الفائدة القصوى منها، لما تحويه من العديد من التساؤلات العميقة التي قد تعصو عليه، رغم عوامل الجذب الممتدة على مدى النص.
 
يتميز أدب الأطفال بضرورة الرسم. فالطفل بحاجة إلى اللون والشكل، للجذب والإيضاح. وبحرفية عالية – أعترف – استطاع الرسام مازن خليل عبد الحي مواكبة النص، فلا شكل للوجه ولا للجسد وإنما حال عام يتشارك به الجميع مصحوب بثلاثة ثقوب في وسط الجسد (على الغلاف) ما يترك انطباعا مشتركا للشفافية وسهولة الاختراق، وعلى شكلين أبيض واسود يعومان بصورة دائرية في محيط واسع يحيط بمركز واحد: الكرة الأرضية. إنها السباحة الحياتية العامة للجميع في مكان مشترك واحد ووحيد.
 
وعلى مدى صفحات الكتاب لا وجود للبحر – كما نعهده في القصص – بتاتا، وإنما يظهر في لوحة وسط الكتاب على شكل فضاء أزرق عشوائي يتوسطه شكل إنسان يعوم. بينما يظهر الولد في كل اللوحات المتبقية. ها لنا جواب واضح يطرحه الراسم ويقول بأن البطل الحقيقي والذي يملأ جميع الرسمات هو: أمين – الطفل. وأمين هذا يحمل شكلا عامّا بلا مزايا ولا تفاصيل، ولكن بألوان وأطر مختلفة تجعله عرضة لأن يكون كل طفل.
 
وكما البدء كذا الختام.. فاتحة – ملحق.
 
الملحق – في نهاية الكتاب عبارة عن رسالة مباشرة إلى الطفل، كل طفل. تُعْلمه المؤلفة بواسطتها بأن الحياة التي يدخلها إنما هي في المحصلة حالة من النقائض والمواجهات، سعادة حزن، نجاح فشل، وميلاد وموت.. إلخ. لذلك عليك أن تقبلها وتواجهها تماما كما هي.
 
ثم تمنحه الكاتبة صفحات بيضاء في خاتمة الكتاب، تدعوه أن يملأها بمكنونات صدره عسى ذلك يساعده على فهم ما يقوله الكتاب من حقيقة مواجهة الحياة بما تبديه له من أمور عصيّة على الفهم ولكن يتوجب وممكن معايشتها.
 
وتختم الكاتبة القاهرة صباغ عبد الحي الملحق والكتاب بآية قرآنية كريمة، وهي تدعو الطفل ليتأملها: " وانه هو أضحك وأبكى* وانه هو أمات وأحيا*".. لماذا؟! لماذا اختارت القاهرة ختام القصة بآية قرآنية – الأمر الذي يحمل أبعادا جبرية إنزالية على قصة بنيت أصلا بمفاهيم عقلية وضعية بحت!
 
قد يحتمل التفسير بعدا نفسيا، بحثا عن وجود ما يمكن - في النهاية - الاتكاء عليه كباعث للسكينة  والأمان ما دام الأمر يتعلق بطفل!
 
أو أنها دعوة مبسطة للمتلقي لنفي النفي، بمفهوم انه حتى المنطق الجبري الديني يؤكد، عبر هذه القاعدة، ان النقائض ليس دائمة.. فإن أنت اجتهدت ينتصر ضحكك على بكائك! طالما ان المؤلفة سبقت الآية بطلب التأمل بها وفيها!!
 
وقد يعتبر البعض الآية شكل من أشكال اتخاذ الموقف من الفكرة التي تطرحها المؤلفة نفسها، وعليه ما كان للسؤال أن يُطرح من الأصل. فالمفهوم العام لعامل الإيمان هو تقبّل الأشياء كما هي ورفض فكرة البحث والتمحيص والشك. فالمبدأ هنا هو: كيف يرى المؤمن عامة الرسالة السماوية وليس كما يطرحها الكتاب المقدس (القرآن الكريم في هذه الحالة: يتفكرون، ويعقلون، ويتدبرون.. إلخ.).
 
أعتقد – في الختام – ان قصة "الولد والبحر" للمؤلفة القاهرة صبّاغ عبد الحي عمل إبداعي هام، جدير بالقراءة والبحث. وكم كنت أرجو لو ان مثل هذه الأعمال تؤخذ على محمل الجد وتُنشر بين الأطفال للإطلاع عليها، عساها تكون رافعة لنوع جيد من كتب الأطفال الداعية إلى البحث المعمق في ما يجيش في النفوس اليانعة.
 
شكرا القاهرة على هذا العطاء الطيب.

بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]

أضف تعليق

التعليقات

تعليقات Facebook