اغلاق
اغلاق
  ارسل خبر

رمضان وجبة غذاء وجرعة دواء وعزّة وإباء

الشيخ كمال خطيب
 
مثلما أنَّ الجسد بحاجة إلى غذاء يتقوى به، وغذاء الجسد الماء والطعام بكافة أنواعه النباتي والحيواني من طير السماء ومن سمك البحر، فإذا لم يأخذ الجسد حظه من الطعام أو حرم منه فإنه يذوي ويضعف ويهزل ويمرض ولعله يموت. ومثل وجبات الطعام التي يتناولها الإنسان إفطارًا وغداء وعشاء، فإنها جرعات الدواء يتناولها المريض بعد إذ يصفها له الطبيب فيأخذها صباحًا أو مساء قبل الطعام أو بعده، لتكون هذه الجرعات الدوائية سببًا في شفاء جسده بإذن الله تعالى.
 
ومثلما أن الجسد بحاجة إلى وجبات الغذاء وجرعات الدواء ليتقوى ويحيا، فإن الروح كذلك بحاجة إلى وجبات وجرعات لضمان عدم هزالها وضعفها ولعلها بعد ذلك تموت. ولقد جعل الإسلام بتشريعاته الخالدة التي أنزلها الله في قرآنه والتي سنّها المصطفى ﷺ في هديه الشريف، ما تكون سببًا، بل هي السبب الرئيس في شفاء الروح وحياتها.
 
إنها العبادات سواء كانت الفرائض منها أو السنن وغيرها من أعمال البر، فإنها تمثل تلك الجرعات والوجبات لغذاء الروح، فقد جعل ربنا سبحانه الصلوات الخمس في كل يوم جرعات روحية ووجبات إيمانية أحوج ما تكون الروح إليها كي تكون قادرة على مواجهة عواصف المادة وطغيان الشهوات التي تعصف بأحدنا من كل جانب. ثم تكون صلاة الجمعة من كل أسبوع جرعة إيمانية ووجبة روحية دسمة تدفعنا إلى الأمام أسبوعًا كاملًا نعيش في أفيائها، ووفق توجيهات ورسائل خطبة الجمعة وفضائل يوم الجمعة وليلته، من قراءة سورة الكهف ومن الإكثار من الصلاة على رسول الله ﷺ ومن كثرة الدعاء والعمل الصالح في ذلك اليوم، قال ﷺ: “الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر” رواه مسلم.
 
ثمَّ يأتي شهر رمضان المبارك جرعة إيمانية ووجبة روحية أكثر دسمًا لأرواحنا بكل ما في رمضان من أعمال البر المميزة، من صلاة القيام بعد الصيام ثم قراءة القرآن وكثرة الصدقات وأعمال البر وصلة الأرحام وغيرها من قائمة طويلة من الطاعات والقربات يتميز بها شهر رمضان المبارك.
 
ويأتي الحج مرة في العمر ليكون هو الجرعة وهو الوجبة وهو الزاد الذي لم يكن صدفة، وإنما هي حقيقة الحج لما ختم الله آية الحج بالإشارة إلى الزاد لما قال سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} آية 197 سورة البقرة.
 
لقد وصف النبي ﷺ صيام رمضان بأنه يطهر الروح من كل شوائبها مثلما أن الدواء يطهّر الجسد من كل أسقامه. وإذا كان ذلك يحصل بصيام ثلاثة أيام في الشهر، فكيف إذا كان الصيام شهرًا كاملًا وهو شهر رمضان كما قال ﷺ: “ألا أخبركم بما يذهب وَحَرَ الصدر؟ إنه صوم ثلاثة أيام من كل شهر”. وحر الصدر هو الغل والحقد والحسد والأنانية وغيرها، فإذا كان ذلك يحصل بصيام ثلاثة أيام فكيف إذا كان صيام ثلاثين يومًا؟! وما أجمل ما قال الشاعر:
 
أتى رمضان مزرعة العباد    لتطهير القلوب من الفساد
 
فأدّ حقوقه قولًا وفعلًا       وزادك فاتخذه للمعاد
 
فمن زرع الحبوب وما سقاها   تأوه نادمًا يوم الحصاد
 
 
 
مرحبا بسيد الشهور
 
وكيف لا يكون شهر رمضان المبارك وجبة إيمانية دسمة وجرعة علاجية شافية لأسقام وعلل نفوسنا وهو الذي به نرتفع إلى مقام التقوى، وقد قال في ذلك ربنا الجليل سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} آية 183 سورة البقرة. وكيف لا يكون شهر رمضان وصيامه كذلك، وهو الذي به نزداد هدى وفضيلة وقربًا من الله سبحانه الذي قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} آية 185 سورة البقرة.
 
إنه شهر رمضان المبارك شهر الصيام وشهر القرآن الذي ولكثرة ما فيه من الخير والفضائل والنفحات ما تجعل المسلم يتمنى لو أن كل العام هو رمضان. وكيف لا يتمنى المسلم ذلك وقد بيّن رسول الله ﷺ ما في رمضان من نفحات لما قال: “قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه الشياطين. فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم”. وقال ﷺ: “يقول الله تعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته لأجلي”. ويقول ﷺ: “والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن قاتله أحد أو شاتمه فليقل إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصيامه”. ويقول ﷺ: “لا يصوم عبد يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا”. وقال ﷺ: “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه. ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”.
 
 
 
رمضان شهر التراويح لا شهر الترويح
 
ولأن الله سبحانه وتعالى قد جعل شهر رمضان جرعة إيمانية مباركة ووجبة روحية دسمة ليكون رمضان سببًا في صفاء أرواحنا وتطهير قلوبنا مما علق بها من لوثة الدنيا وشهواتها، بل إنه سبحانه ولأجل ذلك فإنه في رمضان تصفد الشياطين في الأغلال.
 
وإذا كانت شياطين الجن تصفد في رمضان، فإن شياطين الإنس تنشط وتنطلق من عقالها في ثورة مجنونة عاصفة هوجاء بها تسد ما كانت تقوم به شياطين الجن، وإلا ففي أي سياق وتحت أي معنى يمكن وصف قيام أنظمة عربية عبر وزارات إعلامها وهيئة الأفلام والمسلسلات فيها للاستعداد سنة كاملة بميزانيات مهولة لإنتاج أفلام تعرض في شهر رمضان، وهي أفلام لا علاقة لها بالقيم وبرسالة رمضان وبزيادة الإيمان، وإنما كلها تصب في إفساد الأخلاق والذمم، بل والطعن بالدين ورسالته.
 
فإذا كانت هيئة الأفلام المصرية تفتخر بأنها قد استعدت بثلاثين فيلمًا سيعرض في رمضان، ومثلها الكويت والإمارات والسعودية وسوريا ودول أخرى كثيرة، فإن هذا ليس معناه إلا أن شياطين الإنس سيؤدون مهمة ودور شياطين الجن. يقول المرحوم الشيخ محمد الغزالي في كتابه الرائع -الحق المر: “الأعجب في معاملة الشهر، الاستعداد لإماتة لياليه بفنون التسلية بدل إحيائها بدروس العلم وتدبر القرآن ودراسة ما حوى من حكمة وتوجيه. إن الصيام ارتقاء معنوي وإقبال زائد على الله ورغبة في التسبيح والتحميد لا في اللغو والمجون. وأطلب من أمتنا أن تعي حكمة التشريع لفريضة الصيام كما أطلب منها أن تذكر تاريخ هذا الشهر وما وقع فيه من أحداث جسام”.
 
إن هؤلاء الزعماء قد أعلنوها حربًا سافرة على الله تعالى لما تعمدوا وأحرفوا مسار وبوصلة والحكمة من تشريع رمضان عبر وسائل تؤدي دورًا معاكسًا تمامًا، إنهم سعوا ودعوا لجعل رمضان شهر الترويح واللهو والعبث والمجون والفرفشة والتحلل، بدل أن يكون شهر التراويح والتوبة والقربات والإحسان والطاعات وصالح الأعمال، وبدل أن يكون شهر إعادة انطلاقة الأمة لتؤدي رسالتها التي أراد الله لها وكلفها بها لتكمل رسالة نبيها محمد ﷺ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.
 
فمن قاموا بإلغاء وحلّ وشطب هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستبدلوها بهيئة الترفيه والتسفيه، وأقصد هنا شقي قومه في بلاد الحرمين محمد بن سلمان وحاشيته وبطانة السوء حوله، فليس غريبًا عليهم أن يضيّقوا على المساجد في رمضان وقد وصل إلى حد منع إقامة الإفطارات الجماعية الرمضانية ومنع تصوير ونشر صلوات التراويح من المساجد باستثناء المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، ولعلّ هذين الحرمين الشريفين ستطالهما يد التضييق في قادم الأيام حينما يرون نجاح مشروعهم التدميري هذا بصمت وانخراس بل تواطؤ بعض علماء السوء ومشايخ البلاط معهم.
 
ومقابل هؤلاء الذين يسيئون لدين الأمة وعقيدتها من أجل الحفاظ على ملكهم، فإنه شاب عربي جاهلي هو امرؤ القيس الذي عاش حياته للخمر والصيد والنساء والمجون، حتى جاء اليوم الذي بلغه فيه ضياع ملك أبيه وهزيمة قبيلته بني كندة، وقتل رجالها وسبي نسائها، فرجع إلى نفسه وقال كلمته المشهورة: “اليوم خمر وغدًا أمر”، وراح يعد العدة لاسترداد ملك أبيه والانتصار لكرامته التي ديست، فقرر الذهاب إلى ملك الروم للتحالف معه والاستقواء به. وفي الطريق وكان معه خادمه فرأى الخادم الدم يسيل من قدمي امرؤ القيس وهو ابن العز والدلال والرفاهية، فبكى الخادم تأثرًا على الحال الذي وصل إليه سيده، انتبه امرؤ القيس لبكاء الخادم فراح ينشد قائلًا:
 
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه     وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
 
قلت لا تبك عينك إنما            نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا 
 
أي إننا سنحاول استرداد ملكنا فإما أن ننجح وإلا فلنمت، ونكن معذورين بعدم تقصيرنا.
 
يا ملوك الأمة ورؤساءها وأمراءها، إن حال الأمة وإن كرامتها المسلوبة ومقدساتها المنهوبة، تستوجب عليكم أن تكونوا بمستوى نخوة امرؤ القيس وإن كانت متأخرة، وليس مزيدًا من الفساد والانحراف والحرب السافرة على دين الأمة، وأن واجبكم هو العمل على استرداد المقدسات السليبة وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك، وليس تطبيع العلاقات ولا التنسيق الأمني مع من يهددون باستباحة وانتهاك حرمة المسجد الأقصى وحرمة رمضان.
 
واجعلوا من شهر رمضان توقيتًا لشحذ الهمم وإعادة صياغة هوية الأمة من جديد، ولا تجعلوا شهر رمضان شهرًا للفسق والمجون. إنه شهر التراويح وليس شهر الترويح، لكن:
 
لقد أسمعت لو ناديت حيًا   ولكن لا حياة لمن تنادي
 
 
 
إن رمضان والقرآن ليشفعان
 
كان أحد الصالحين يحتضر وهو في الفزع الأخير، فيصحو لحظات ثم يدخل في غيبوبة وهكذا. وكان يجلس إلى جانبه أخ له في الله، وكان يذكّره بالله كلما استيقظ من غيبوبته. وفي واحدة من تلك اللحظات ظلّ يرجيه بربه خيرًا ويؤمله برحمته ومغفرته، فلما أن سمع تلك الكلمات وكأن الله سبحانه دبّ فيه القوة والحياة، فنظر المحتضر إلى أخيه قائلًا مبتسمًا: “وكيف لا أرجوه وأنا الذي صمت له ثمانين رمضان”.
 
وكان رجل صالح آخر اسمه عبد الله بن إدريس وكان يحتضر، وكانت ابنته جالسة عند رأسه، وراح يشهق شهقات الموت فبكت ابنته، فقال لها: “لا تبكي يا ابنتي فوالله لقد ختمت القرآن الكريم في رمضان في هذا المكان أربعة آلاف ختمة استعدادًا لهذه اللحظة، يا ابنتي ألم تسمعي قول النبي ﷺ: “إن رمضان وإن القرآن ليشفعان للعبد يوم القيامة. فيقول رمضان: أي رب لطالما منعته الطعام والشراب فشفعني فيه، فيقول القرآن: أي رب لطالما منعته النوم فشفعني فيه فيشفعان”.
 
اللهم شفّع فينا رمضان، اللهم شفّع فينا القرآن، اللهم شفّع فينا المصطفى العدنان.
 
اللهم اجعلنا من عتقائك من النار وعندك من المقبولين يا رب العالمين.
 
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
 
 
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
 
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]

أضف تعليق

التعليقات

1
حياك الله على على هذا الكلام الطيب... !
بمت يافا - 24/03/2023
رد

تعليقات Facebook