آتى توقيت الاذن الرباني للنبي محمد عليه افضل الصلوات والتسليم بالهجرة من مكة الى المدينة المنورة (يثرب) مواتيا لجعل هذه الهجرة بادرة لاستقلال وتحرر حقيقيان بكل المفاهيم والمعايير.
فلقد جاءت الهجرة بعد معاناة النبي عليه الصلاة والسلام جراء الحصار الجائر الذي فرضته قريش على المسلمين في شعب ابي طالب وبعد فقدان الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام لعمه ابي طالب وهو نصيره والمدافع عنه ولزوجته السيدة خديجة أم المومنين الاولى رفيقته في دعوته منذ بدايتها وبعد هجرة أصحابه الى الحبشة الذين شكلوا سندا لدعوته وبذلك يكون حبل الدعم المحسوس قد انفطع، هذا الحبل الذي يكون عادة معتمدا على التعلق بالغير من بني البشر ذوي المال والسلطان والجاه.
لكن النبي عليه الصلاة والسلام قد بين بطلان التعلق بالغير حين قال لعمه أبي طالب " والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على ان اترك هذا الامر ما تركته حتى يظهره الله او اهلك دونه" ضاربا بذلك اسمى معاني التمسك بالمبادئ وممهدا لهذا الاستقلال ولهذا التحرر الذي تحقق بالهجرة لاحقا وبذلك لم تكون الهجرة مجرد رحلة أو انتقال من مكان الى مكان أو خيار بين مكان وآخر فلو كان الامر كذلك لاختار النبي عليه الصلاة والسلام البقاء في مكة المكرمة مكان ولادته ومهد دعوته كيف لا وهو الذي قال " والله إني لأخرج منك، وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله، وأكرمها على الله، وإنك لأحب أرض الله إليّ، ولولا أنّ أهلك أخرجوني منك قهراً ما خرجت من بلادي" ضاربا بذلك اسمى الامثلة في حب الارض والوطن والتمسك بهما.
بل إن الهجرة كانت فعلا بادرة استقلال وتحرر بكل المعايير وعلى جميع المستوايات فلقد تحرر من هاجر من المسلمين من نير عبودية العادات والروابط القبيلية حين تمردوا عليها باسلامهم ومن ثم بهجرتهم واستقلوا لا باحسادهم فقد بل بارواحهم وبكل وجدانهم بعد ان خلف بعضهم وراءه الزوجة والولد والبعض الاخر المال والجاه وغيرهم خلف الام والاب لانه لا سبيل لتتحرر من هذه القيود الا بعد الانفكاك من قيود النفس والتحرر وقيود الدنيا عن طريق التخلي عنهما لصالح الروح.
بينما تأتي ذكرى الهجرة في هذا العام كما أتت في كل عام وامتنا الاسلامية تغط في سبات عميق يحجبها جمبعا، الا من رحم الله، عن معاني الاستقلال والتحرر المعنوي التي خلقتها هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام فهي غرقى في عبودية يملئها الجاه الكاذب والمحسوبيات الزائفة التي تحكمها العائلة والحزب والجماعة الى درجة لا تجروء هذه الامة من شدة تلذذها بهذه العبودية التي أمعن اعداء الاسلام والمسلمين في ترسيخها بعد أن ادركوا شدة عشق هذه الامة لهذه العبودية وشدة خوفها من التغيير الذي قد يؤدي في نهاية المطاف إلى الاستيقاظ من هذا السبات.
ان امتننا احوج ما تكون في هذه الايام الى الهجرة ليس بمعنى الهجرة من مكان الى مكان وترك اوطانها كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مكرها بل عليها التأسي بحديث الرسول الكريم القائل " المهاجر من هجر السوء" وتهاجر هجرة معنوية توصلها الى الحرية والاستقلال كما اوصلت الهجرة النبوية المسلمون الاوائل الى الحرية والاستقلال لكنها لن تستطيع فعل ذلك حتى تتحرر مما هي فيه من عبودية وتؤمن ايمانا تاما بإن هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام لم تكن مجرد هجرة من مكان الى مكان بل هي بادرة استقلال وتحرر.
التعليقات