معركة غزة بين التجويع والتجهيل .. الشيخ كمال خطيب
يافا48
2024-08-30 08:21:00
كنّا في مقالة الأسبوع الماضي قد تحدثنا عن سياسة التجويع التي تعتمدها إسرائيل ضمن خطة حربها على شعبنا الفلسطيني وأهلنا في قطاع غزة حيث يتنافى الحرمان ومنع الإنسان من الغذاء والماء والدواء مع الشرائع السماوية ومع التشريعات والقوانين الأرضية.
ولأن حكومة إسرائيل وجيشها بقيادة نتنياهو قد أعلنوا منذ اللحظة الأولى للحرب أن الهدف منها هو محو سلالة “العماليق” الفلسطينيين كما ورد في خطاب إعلان الحرب على غزة مستندًا إلى فقرة من سفر الشينة: “أذكر ما فعله بك عماليق في الطريق عند خروجك من مصر”. وفي كتاب صموئيل الفصل الخامس عشر تقول الآية الثالثة: “والآن اذهب واضرب العماليق وحرموا كل ما لهم ولا تعف عنهم، بل اقتل على السواء رجلًا وامرأة، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملًا وحمارًا”. لأجل ذلك فإنهم اعتمدوا سياسة التجويع، فمن لم تقتله الطائرة والمدفع فسيقتله الجوع والعطش والمرض.
ولما أننا سنكون بعد يوم واحد فقط مع بداية عام دراسي جديد 2024/2025 فإنه سيظهر جليًا أن مع سلاح التجويع والحرمان من الغذاء مورس ضد أبناء شعبنا في غزة، فإنه سلاح التجهيل والحرمان من التعليم كوسيلة من وسائل تدمير شعبنا.
إنه وبالتفاوت البسيط بين بداية العام الدراسي الجديد بين دولة وأخرى، إلا أن جميع دول العالم تتقارب مواعيد بداية دخول الطلاب إلى مدارسهم وإلى جامعاتهم. وإذا كان طلاب مدارس ومعاهد وجامعات كل الدول سيستقبلون عامًا دراسيًا جديدًا، إلا أن طلاب قطاع غزة وحدهم من بين كل طلاب الدنيا فإنهم لن يعودوا إلى مدارسهم ولا إلى جامعاتهم حيث لا مدارس ولا جامعات يرجعون إليها.
إنها الحرب الإسرائيلية المجنونة على أبناء شعبنا في غزة والمستمرة منذ أكثر من عشرة أشهر، والتي تم تدمير 70% من المباني والبيوت والبنية التحتية هناك، زيادة على قتل ما يزيد على 40,000 من أبناء شعبنا. ولأن من أهم عناصر ومقومات نهضة أي شعب هو جهاز التعليم، فإن المؤسسة الإسرائيلية قد استهدفت هذا القطاع بشكل ممنهج. إنه وفق إحصاءات مكتب “الإعلام الحكومي والهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني” فإن حصيلة استهداف جهاز التعليم قد أسفرت عن نتائج وأرقام مذهلة تؤكد أن سلاح التجهيل كان لا يقل عن سلاح التجويع، ففي قطاع غزة تم تدمير” 117″ مدرسة وجامعة تدميرًا كليًا، وتم التدمير الجزئي لـ “332” مدرسة، وتم قتل “500” معلم ومدير مدرسة، وتم قتل “100” عالم وباحث وأستاذ جامعي، وتم قتل “9000” طالب مدرسة وجامعة، وإن “800” ألف طالب وطالبة قد ضاعت عليهم السنة الدراسية 2023/2024، وكل المؤشرات تدل على ضياع واستحالة العودة للمدارس في العام الدراسي الجديد 2024/2025. وتشير الأرقام والإحصاءات الرسمية أن “39,000” طالب وطالبة قد فاتهم إجراء امتحانات الثانوية العامة “التوجيهي” وهو الامتحان والشهادة التي تؤهل الطلاب للدخول إلى الجامعات في داخل الوطن وخارجه. وليس أن إسرائيل قد استهدفت المدارس والجامعات فقط كمراكز للتعليم والوعي والثقافة، وإنما استهدفت المساجد كأهم منارات للعلم زيادة على كونها أماكن عبادة، فقد قامت إسرائيل بهدم وتدمير “609” مساجد تدميرًا كليًا، ودمرت جزئيًا مئات المساجد الأخرى زيادة على ثلاث كنائس دُمرت بالكامل.
إن حجم الاستهداف لجهاز التعليم في قطاع غزة ومقدار الحقد الذي مورس ضده، فإنه يأتي بحجم التميّز الذي كان عليه قطاع غزة. وأعلم علم اليقين أن أصحاب القرار في إسرائيل يعلمون جيدًا وبأدق التفاصيل المكانة العلمية لأهل غزة.
إنها المفارقة العجيبة التي لا بد أن يعلمها الجميع أن رؤيتنا لأهلنا المشردين واللاجئين في غزة بثياب البؤس وهم الذين خرجوا من بيوتهم لا يحملون معهم إلا أقل القليل من حاجاتهم، فإن خلف تلك الثياب الرثة تسكن قلوب عامرة بالإيمان وعقول عامرة بالوعي والعلم والثقافة. وإذا كانت إسرائيل التي بجيشها تقتل هؤلاء وتشرّدهم وهي تباهي بقدراتها وترساناتها وآلة الموت والقتل التي تملكها وتسلّطها على شعبنا الفلسطيني في غزة. إن إسرائيل هذه والتي تعتبر نفسها جزءًا من المنظومة الغربية، فإن نسبة الأمية فيها تبلغ 4.6% بينما أبناء شعبنا في غزة الذين تقتلهم إسرائيل وجنودها الأميون لا تصل نسبة الأمية بينهم إلا إلى 2.8%.
وليس هذا وحسب، بل إن نسبة المتعلمين في قطاع غزة هم في المرتبة الأولى على صعيد الوطن العربي كله من محيطه إلى خليجه. فإذا كان معدل المتعلمين في الوطن العربي يصل إلى 79% فإن معدل التعليم في قطاع غزة يصل إلى 96.4% رجالًا ونساء وهي عند الرجال تبلغ 98.3%. وتأتي قطر في المرتبة الثانية بنسبة 96.3%، ويأتي فلسطينيو الضفة الغربية بالمرتبة الثالثة بنسبة 95% بينما تصل نسبة التعليم في الإمارات التي تنام على بحيرة من النفط والغاز إلى 77.9%.
وإن مما يدل على الاستهداف لجهاز التعليم ما أوردته صحيفة هآرتس العبرية في تقريرها يوم الجمعة 16/8/2023 عن ظروف اعتقال الأسرى الفلسطينيين في معتقل “سدي تيمان” في النقب الذي كان بعنوان: “خدمنا في سدي تيمان، هكذا هو الحال من الداخل، الأيدي والأرجل مقيدة، الأعين معصوبة، ممنوع التحرك بحركة، ممنوع الكلام هكذا تمر الساعات تلو الساعات، ويوم بعد يوم، وأسبوع يتلوه أسبوع وبين المرة والمرة ضربات قاتلة. جنود وأطباء يتحدثون عن ظروف اعتقال المحتجزين من غزة”.
يقول أحد الجنود في شهادته:” أخرجوا عشرة أشخاص من قفص الاعتقال، ذهبوا بهم إلى مكان مغلق، فجرّوهم بالعصي، كانت ضربات إلى حد اعتقادي أنها كسرت أسنانًا وكسرت أضلاعًا، كل ستة أو سبعة جنود على معتقل واحد. ركلات ضربات لطمات وهكذا حتى يتعبوا”.
إنها التفاصيل المريعة والفظائع تفوق الخيال ويشيب لها الولدان يتحدث بها هؤلاء الجنود عن أدق التفاصيل لكيفية تعامل الجيش الإسرائيلي في مسلخ “سدي تيمان”. وقد أورد أحد الجنود بذكر الحرف الأول من اسمه عن اللحظة التي رأى فيها معلمًا معتقلًا يبلغ من العمر 60 سنة والذي لم يكن له إلا طلب واحد هو أن يتم التعامل معه كإنسان وكان يبكي من القهر.
كلب ابن كلب
فإذا كان طلب ذلك المعلم الفلسطيني ابن 60 سنة أن يتم التعامل معه كإنسان، فإنه يشير ويدل بشكل واضح إلى انتهاك إنسانيته وإلى التعامل معه وكأنه حيوان أو حتى أقل من ذلك تحقيرًا وازدراء وإهانة وتنكيلًا.
قال الإمام السبكي رحمه الله: “كنت جالسًا بدهليز دارنا “فناء البيت” فأقبل كلب فانتهرته قائلًا: إخسأ كلب ابن كلب. فسمعني والدي وكان بداخل البيت فزجرني بسبب ما قلته، فقلت له: سبحان الله أليس هو كلب ابن كلب؟ فقال لي والدي: إن شرط جواز أن تقول ما قلته هو عدم قصد التحقير”. فإذا كان هذا في حق الحيوان بعدم جواز تحقيره فكيف بمن يحقرون الإنسان؟ وكيف بمن ينتهكون آدميته وإنسانيته؟
كيف بوزير حرب إسرائيل الذي وصف أهل غزة كلهم بأنهم حيوانات بشرية؟ وكيف بمن يطلقون كلابهم البوليسية لتنهش أجساد الأحياء من كبار السن ومن ذوي الاحتياجات الخاصة؟ كما حصل في حالتين تم توثيقهما وهما للمسنة “دولة الطنان” وللطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة “محمد صلاح بيار”، وكيف بمن يقتلون الفلسطينيين شيوخًا ونساء وأطفالًا ولا يسمحون لأحد بنقل جثامينهم التي تتحلل في الشوارع والطرقات تنهشها الكلاب ولا تُدفن إلا بعد أيام أو أسابيع، بينما هم الذين إذا قُتل أحد كلابهم البوليسية فإنهم يُجرون له طقوسًا عسكرية ويدفنونه في مقابر خاصة تليق بمقامه ولسان حالهم يقولون: إن كلابهم هي أكرم من أبناء شعبنا؟!!!
وكيف بمن يجبرون المعتقل الفلسطيني خلال اعتقاله والتحقيق معه كما أوردها أكثر من معتقل فلسطيني، فإنهم يربطون في عنقه حبلًا ويجبرونه على أن يمشي على أربع، وأن ينبح مثل الكلب؟ وفي حالات أخرى يضعون له صحن طعامه ويجبرونه وهو مقيّد اليدين أن ينحني بلسانه فيلعق بلسانه من الصحن كما يلعق الكلب؟
فأي فارق بين المسلم لا يُقبل منه أن يقول عن الكلب أنه ابن كلب إذا كان القصد منه التحقير والإهانة والازدراء، وبين من يهين ويزدري ويحقّر الفلسطيني عبر إلزامه بالقيام بحركات لا يقوم بها إلا الكلب؟ فيا هؤلاء:
حسبكم هذا التفاوت بيننا *** فكل إناء بالذي فيه ينضح
أنتم وفد الله يا أهل غزة
وأنتم الذين حُرم أبناؤكم من الدراسة والتعليم، وأنتم الذين يهان ويحقّر أبناؤكم في السجون والمعتقلات، وأنتم الذين قُتل أبناؤكم وشُرّدت عوائلكم وهُدمت بيوتكم ويُتّم أطفالكم ورملت نساؤكم وأنتم الذين تدفعون ضريبة الكرامة عن الأمة كلها، فلا عليكم بعد هذا كله.
فإذا كان بعض الناس يطيرون فرحًا إذا كان أحدهم ضمن وفد دخل وزار زعيمًا من الزعماء، وهناك استقبله فخامته أو سموه أو جلالته، فيعتبر وجوده بذلك الوقت أنه حظّه من الدنيا ولا بأس لو مات بعد ذلك.
وإذا كنتم يا أهل غزة في حصاركم منذ سبعة عشر عامًا لا تدخلون على صاحب جلالة ولا فخامة، بل إن هؤلاء هم الذين يشاركون في حصاركم، لا بل وإذا كانت الوفود هذه الأيام تتقاطر شرقًا وغربًا، ليلًا ونهارًا سعيًا منها لإيجاد حلّ جذري يرضي غرور المتأله نتنياهو ولو على حساب حقوقكم وكرامتكم، فلا عليكم من هذه الوفود ولا من الذي يسيّرها.
وإذا كان أسمى أماني أصحاب الجلالة والفخامة العرب والمسلمين بأن يرأس أحدهم وفدًا يدخل فيه على الرئيس الأمريكي بعد أن يكون قد تكرم عليه بالموافقة على زيارته له، فلا عليكم يا أهل غزة إن لم تكونوا أنتم ضمن الوفود المتجهة إلى الرؤساء والملوك، فكما قال الاستاذ أدهم الشرقاوي: “المهم أن لا يفوتكم الوفد الذي سيدخل على ملك الملوك سبحانه وتعالى {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا} آية 85 سورة مريم”.
ستفشل حرب التجويع وستفشل حرب التجهيل وستفشل حرب التقتيل تقودها إسرائيل.
وأما أنتم يا أبناء شعبنا في غزة فإنكم ستخرجون من تحت رماد هذه النار مثل عنقاء الرماد، وتنفضون عنكم غبار هذه الحرب المجنونة، وتنفضون عنكم ذلّ السنين وتمضون إلى الأمام يملؤكم اليقين أنكم إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
التعليقات