الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلق الله اجمعين .
في صدر الإسلام والعصور المفضّلة كان عدد المسلمين أقلَّ بكثير مما هم عليه الآن، ونسبتهم إلى سُكّان الأرض أقلَّ من نسبتهم إليهم الآن، ومع ذلك كان النصر والتأييد حليف أصحاب تلك القرون، وكانت الفتوحات تَتْرَى على دولة الإسلام أرضًا بعد أرض، وديارًا تتلوها ديار، حتى غَطّت دولة الإسلام مساحة شاسعة وأراضي واسعة من هذه المعمورة، وما لم يكن من الدول تحت حكمها اضطرّ أهلها لدفع الجِزْية للمسلمين.
أما في هذا الزمان فعدد المسلمين جاوز المليار، وهم خُمس سكان العالم، وفي بلادهم الثروات الطبيعية، بل بلادهم أغنى البلاد في مقدّراتها ومكنوناتها، ومع ذلك فلا ترى أمة تتجرّع الذل والهوان ـ مع كل هذه الإمكانات ـ كأمّة الإسلام. تسلّط عليهم الأعداء، ومع ذلك فكثير منهم كأنّ الأمر لا يعنيهم، بل لا يزالون يتنازعون ويتصارعون على متاع الدنيا الزائل ونعيمها الفاني.
لقد تسابق كثير من المسلمين إلى أصفار المليار؛ ليقوموا مقامها، وقنعوا بذلك، ورضوا به، فركنوا إلى الدنيا وملذّاتها، وأعرضوا عن طريق الله القويم وصراطه المستقيم، وما سعوا إلى جمع كلمتهم وتوحيد صفهم ضد عدوهم؛ فصاروا إلى ما صاروا إليه الآن.
وإن ما يصيب المسلمين من المحن والبلايا والفتن والرزايا لهو بسبب أنفسهم وما اكتسبته أيديهم، (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11].
إن الذنوب باب كل شرّ وطريق كل فتنة، حتى ولو كانت من الصغائر، بل ولو ذنبًا واحدًا.
لقد أُخرج آدم من الجنة بمعصية واحدة ارتكبها، وهي الأكل من الشجرة التي نُهي عنها، ولُعِن إبليس وطُرِد حين عصى وأبى أن يسجد لآدم، ودارت الدائرة على المسلمين يوم أُحد وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عصى الرماةُ أمرَه، ونزلوا عن الجبل دون أمره، وكان أَمَرَهم أن لا ينزلوا حتى يكون هو الذي يأمرهم، وحين أعجبتهم كثرتهم يوم حُنَين حتى قال قائلهم: لن نغلب اليوم من قِلّة فلم تُغنِ عنهم كثرتهم شيئًا، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم ولّوا مُدْبِرين، ثم أنزل الله نصره على رسوله وعلى المؤمنين.
لقد توافرت النصوص وتضافرت في التحذير من الذنوب وبيان شيء من آثارها السيئة، وأنها كانت سبب العقاب والهلاك الذي حَلّ بالأمم السابقة.
ففي المسند وابن ماجه بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا بوجهه فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمسُ خصالٍ إذا ابتُلِيتم بهنّ، وأعوذ بالله أن تدْركوهنّ: ما ظهرتِ الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلاّ ابتُلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قومٌ المكيالَ والميزان إلا ابتُلوا بالسنين وشدَّة المُؤْنة وجَوْر السلطان، وما منع قومٌ زكاةَ أموالهم إلاّ مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطروا، ولا خفَر قومٌ العهدَ إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تعملْ أئمتُهم بما أنزل الله جل وعلا في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم))، وفي المسند أيضًا من حديث أم سلمة: ((إذا ظهرت المعاصي في أمّتي عمَّهم الله بعذاب من عنده))، وفيه أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((جُعِلت الذلة والصغار على من خالف أمري))، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكَلَة إلى قصعتها))، قال قائل: ومن قِلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: ((لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غُثاء كغُثاء السيل، تُنْزع المهابة من قلوب عدوكم، ويُجعل في قلوبكم الوهن))، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) رواه أبو داود.
ولقد تفطّن السلف الصالح إلى آثار المعاصي فحَذِروها وحذّروا منها، استمعوا إلى الصديق رضي الله عنه يبعث جيشًا فيوصيهم: (إنكم لن تُنصروا على عدوكم إلا بعد تقرّبكم من الله وبعدهم عنه، فإذا تساويتم ـ يعني: في المعاصي ـ كانت الغلبة لأكثركم عدة وعتادًا).
وعمر رضي الله عنه يوصي سعد بن أبي وقاص يوم بعثه إلى القادسية: (آمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، وعدّتنا ليست كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة).
ولما تزلزلت المدينة قال عمر رضي الله عنه (إن الله يستعتبكم فأعتبوه)، ثم قال: (والله لئن عادت مرة أخرى لا أساكنكم فيها).
إن المعاصي تُهِين المرء على الله (وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج:18]، قال الحسن رحمه الله: "هانوا عليه فعصوه، ولو عزّوا عليه لعصمهم". ولما بكى أبو الدرداء يوم فتح قبرص فقيل له: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! قال: (ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة ظاهرة قاهرة لهم الملك فصاروا إلى ما ترى).
وإذا هان الخلق على الله لم يعبأ بهم ولم يجب دعوتهم، روى الترمذي وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم)).
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شرّ أنفسنا , واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
التعليقات