يافا تحتضر ثانية، وأي احتضار - بقلم زهية قندس
يافا 48
2021-01-26 10:47:00
لقد فقدت يافا في مدة قصيرة جداً علمًا من أعلام تاريخها، جد يافا وجدي أبو صبحي أبو شحادة، وها هي اليوم تفقد عاموداً مركزياً في حاضرها، الأخ الكريم، أخي محمد أبو نجم. لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم اربط على قلوبنا. يبدو أن القلب الفلسطيني بشكل عام والقلب اليافاوي بشكل خاص قد تعوّدا على الفقدان، فمأساتنا لا تنتهي وتراب مقابرنا لا يجفّ.
لقد تركنا أبو صبحي ومحمد ونحن في أمس الحاجة إليهما، أبو صبحي في مساعيه الشاقة طوال سنين عمره الطويل للحفاظ على ذاكرتنا الجماعية قبل النكبة، ومحمد في سنين عمره القليلة في بناء ذاكرة جديدة. المشترك بين الجد والحفيد كان، وما أصعب أن نقول كان، حرث أرض المدينة لاستنهاض حاضر بديل. كان لكل منهما أمل يقينيّ وايمان مطلق بالذات الفلسطينية الجماعية وبقدرة أهالي المدينة القيام بأعباء ثقال للنهوض بالواجبات اللازمة ليعم الخير على المدينة والوطن.
عرفت محمداً زميلاً في المدرسة الثانوية الشاملة في يافا. عرفته على الدوام رفيقاً كريماً، باسماً للحياة، فخوراً ببنات البلد وأبنائه، عاشقاً للمدينة، خدوماً لأهلها. كبر محمد فأصبح رجلاً واثباً وثبة الأسد حين مس المدينة ضرر، وكم مستها أضرار وكم وثب من وثبات. ربما لهذه السمات المجيدة وهذه الأفعال الحميدة ما فيها لكي تملأ صدورنا بألم خاص استيعابًا لخسارة كبيرة.
أتفق تماماً مع الرأي القائل أن الواقع الإجرامي في فلسطين له علاقة وثيقة بسياسات عنصرية قديمة تهدف لإتمام مشروع التصفية في سنين النكبة الأولى. وهو خطأ سعت إسرائيل منذ حين لتصحيحه من خلال استخدام وسائل شتى للتخلص منا من أجل بناء مجتمع إسرائيلي طاهر، موحد الجنس والدين والرؤيا، ظناً منها أنها بذلك تنفع المجتمع اليهودي ومستقبله.
إن أفضل وأسهل وأنجع وسيلة للتخلص من الآخر هي سياسة فهمتها الناس منذ القدم والمتمثلة أحسن تمثيل بالمقولة الشعبية القائلة "فخّار يكسّر بعضه". فإن القائمين على السياسات الإسرائيلية يؤمنون بأن ليس عليهم سوى الجلوس جانباً ليستمتعوا بمشهد التلانوفيلا اليافاوية، الفحماوية واللداوية وغيرها، وهو مسلسل مافيا محلي شيّق حقاً فاقت حبكته حبكات أفلام هوليوود العصابية.
قد يبدو أن لا ناقة ولا جمل لمشروع الدولة الصهيوني العنصري بالواقع العربي الإجرامي. فهم يقولون لا شأن لنا بما تفعلون، ويعيدون لأنفسهم ما تعلموه في المعاهد العلمية والمنظومات الاستشراقية الأوروبية، والتي منها أيضا تتغذى الصهيونية الحديثة، مفادها أن الجريمة هي مرض متوارث عند العرب، حتى قبل تبني بعضهم الإسلام ديناً. بحيث أن العربي، بالذات المسلم، يولد والسكين في يده، يخرج هكذا عارياً من بطن أمه، شريراً بطبعه. فإن أصل البلاء، كما يعتقدون، هو هذا الدمج القاتل بين العروبة والإسلام. المجتمع العربي برأيهم هو مجتمع غير قابل للتغيير، وعليه فالأفضل له أن يخرج من التاريخ وأن لا يعود، ومن الحكمة لأجل الحبكة الدرامية، أن يُخرج نفسه بنفسه.
الإجرام المحلي هو نتيجة لسياسات التهميش العنصري، لكن أزمتنا لم تبدأ مع إسرائيل ولا تنتهي عند سياساتها. المذنب الأكبر والأول للفساد المتفشي بيننا هو نحن، نعم نحن، فالدم يلطخ أيادينا جميعاً. إن الأعمال الإرهابية التي يقوم بها مسلمون بحق شعوب المنطقة وبحق أنفسهم باسم الدين، وحرب العصابات المحلية في فلسطين باسم الشرف والمال، فيها لكي تثبت للجميع أن لا دخان بلا نار، بأن الآراء المسبقة ضدنا باتت حقيقية، فها هو العالم يشاهدها بعينه في الشوارع ليس فقط في الكتب.
السؤال الخطير حقاً اليوم، والذي نعيد صياغته والقلب حزين لفقدان الصديق وابن البلد الغالي رحمة الله عليه، هو لماذا أصبح المسلم إرهابياً وكيف بات الفلسطيني مجرماً؟
أولاً وقبل أي شيء، علينا أن نعترف أن الإرهاب والإجرام، أخواتي وإخواني، هي أمراض اجتماعية. بمعنى، هي ليست كما يدّعون أمراضاً طبيعية بيولوجية ولدنا معها، لكنها اجتماعية، أي تاريخية، أي أن لها أسباب عينية. وعليه، فإن تحديد هذه الأسباب التاريخية ضروري إن شئنا، ونحن نشاء، تقديم علاج لها.
إن أسباب هذا الواقع الفاسد متعددة وشائكة ومتفرعة، وهي تربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، ولها علاقة وثيقة بعلاقات القوى في العالم الحديث. فقد توّلدت أسباب الإرهاب والإجرام وتشعبت داخل سياقات ومفاهيم علمية وسياسية واجتماعية واقتصادية متراكمة، ولكل سياق متخصّصيه لكي يشخّصوه ويفهموه ويعالجوه.
برأيي، إن أحد أسباب هذا الواقع يعود إلى فقدان جيل الشباب الفلسطيني، الجيل الثالث للنكبة، معنى الحياة ومعنى الوجود، وهو فقدان جماعي، أي أنه لا يميّز يافا فقط. لفقدان معنى الوجود سبب بذاته وهو فقدان الفرد الشعور بالانتماء إلى مجموع يعود بالفائدة عليه وعلى عائلته. الإنسان، كما علّمنا التاريخ وعلّمتنا الفلسفة، يعيش في مجموع إنساني، حيث نشأت المجموعات تاريخياً بالتدريج بسبب احتياجات وضرورات، كالتعاون للحصول على الغذاء والتصدي في وجه تعدي مجموعات أخرى عليها. يقول مثلاً ابن خلدون، بأن المجموع الإنساني قائم على قضية الانتماء والوحدة بين أفراده والتحام صفوفه في وجه عدوان خارجي، فإن فُقد الشعور بالانتماء والوحدة قارب المجموع على الزوال.
إن من أهم قواعد الدولة - وهي منظومة اخترعها الإنسان لأجل بقائه وتقدمه - هي تزكية نفس الفرد الواحد وتربيته على الأخلاق وإكسابه مفاهيم تساعده على وعي ذاته ووعي المجموع الذي يعيش داخله. نظرياً، فإنه على الدول أن تنشأ على قاعدة العدل وتضع أمامها تلبية حاجات أفرادها، ليست فقط الحسية والجسدية، بل أيضا الروحية والحضارية. فنحن من كثرة الحديث عن الموت وصراع البقاء نسينا أن غاية الإنسان هي سعادته، ولا تتم له السعادة إلا من خلال سعادة المجموع ومساهمة أفراده، كل في تخصصه وحسب قدراته، في بناء حضارة علمية تعتمد على الآداب والعلوم والفنون، بما في ذلك العقلية والدينية.
الآن، بسبب التهميش والتعنيف السياسي ليس لدى الفلسطيني نظام يمنحه هذه الضرورات، كما ليس للعربي اليمني أو المصري أو العراقي وغيرهم أنظمة سياسية تُعنى بمصالحهم الجماعية. فجميع شعوب المنطقة، كما هو الحال مع شعوب العالم الثالث، تعيش تحت وطأة أنظمة سياسية فاسدة تسفك الدماء باسم القانون والقومية والدين وتقوم بجرائم شرعية لا تعاقب عليها. والسؤال إذن هو، كيف تستطيع المجتمعات الفاقدة لنظام سياسي عادل أن تحافظ على بقائها في وجه عدوان الأنظمة؟
هنا نأتي لأهمية الفئات المثقفة في المجتمعات والتي هي هي من عليها أن تملئ الفراغ والقيام بهذه الواجبات الجسام في زمن نسيت فيه أو تناست الدولة هدفها الأساسي، وهو كما قلنا الحفاظ على بقاء المجتمعات ومنحها ما تحتاجه لتقدمها وسعادتها. بجانب ذلك، فإن المسؤولية تقع على كافة فئات المجتمع وليس فقط على المثقفين. فالعامل له واجب، والأهالي لهم واجب، والشيوخ لهم واجب، والصغار لهم واجب، ولكل منا واجب، كل بحسب قدراته ومجاله.
كلمة للقائمين على هذه السياسات. يبدو أنكم لم تقرؤوا التاريخ، أو أنكم تناسيتموه عمداً. عدوانكم علينا هو عملياً عدوانكم على اليهودية نفسها، أي على تلك الحقبة الطويلة من التاريخ اليهودي التي ترعرع فيها اليهود ومنتوجهم الفكري في أحضان الحضارة العربية والإسلامية. بكلمات بسيطة، إن ظلم إسرائيل للفلسطيني هو خيانة للتاريخ اليهودي، ولا تاريخ لليهودية دون الشرق والعروبة والإسلام. واذكروا رجاءاً من قام بالكوارث التي مررتم بها باسم الدولة الحديثة التي ما زلتم تتغنون بالانتماء إليها والتحدث باسمها. إن أكملتم بالعدوان علينا فسوف تتفشى جرثومة الاجرام في صفوف المجتمع الإسرائيلي ذاته. الوجود الفلسطيني، عزيزي اليهودي الإسرائيلي، هو شرط لوجودك كيهودي. لذلك فمن أجلك، لا من أجلنا، كف أياديك عنا، فلا وجود لك دوننا.
لننهي الحديث ونقول ما يجب أن يطول حوله البحث والتحليل لاحقاً:
نحن نعاني اليوم من مآزق نفسية اجتماعية واقتصادية وسياسية علينا أن نفهمها في سياقاتها المحلية والعالمية لكي نشفيها. وعليه، فإن الغضب على العصابات لا يكفي، وعقاب القتلة ضروري لكن غير كافي. يجب استئصال جرثومة العدوان من جذورها. لذلك، فنحن نرى إن التئام عرى المجتمع الفلسطيني هي أول وأهم خطوة نبدأ منها.
من واجبنا جميعاً أن نندمج في صفوف مجتمعنا ونسانده في تخطي أزماته من خلال فهم تعدد انتماءاته وتفاعلاتها الإيجابية في حياته وحياة عائلته. إننا مجتمع متعدد الأديان والأيدولوجيات والمذاهب والرؤى الاجتماعية، وعلينا أولاً أن نعي هذه الاختلافات ونفهم أنه ليس عليها أن تفرق صفوفنا كما هو الحال الآن، بل على العكس، أن نفهم أنها مصدر قوتنا وطاقتنا وشرعيتنا التاريخية. علينا أن نرتقي لمرحلة تتطلب منا جميعاً أن نجتمع على طاولة واحدة، عمّال ومثقفون، نساء ورجال، لنضع مصلحة الشعب أمام أعيننا ونطرح خطة عمل منهجية للخروج من هذه الأزمة، أو بالأحرى هذه الكارثة التي تهدد بقاءنا جميعاً. ولتفعل الأنظمة ما تريد ونفعل نحن ما نستطيع.
زهية قندس، باحثة أكاديمية في التاريخ الإسلامي الحديث والأدب العربي، تعيش اليوم في برلين، ألمانيا
التعليقات