بقلم الشيخ كمال الخطيب
عندما سئل المعماري الأمريكي الشهير “فرانك لويد رايت” وكان في سن الثالثة والثمانين عن أفضل إنجازاته في مسيرة حياته المهنية قال: “إنه مشروعي القادم..”.
انظروا بربكم إلى هذه الهمّة العالية، والعزيمة المتوقّدة، والتفاؤل المفرط، والطموح الذي لا يقف عند حد.
انظروا إلى هذا الذي في عرف الكسالى فإنه يجب أن يكون في ملجأ المعجزة، وفي عرف القانونيين يجب أن يكون قد أحيل إلى التقاعد، وفي عرف اليائسين فإن بوصلة عقله بدأت تضطرب فلا خير منه يرتجى، وفي عرف أصحاب المال فإنه الجشع الذي لا يشبع ولكنه في عرف صنّاع الحياة وبناة الحضارات فإنه صانع حياة وباني حضارة ورائد من الرواد.
إن صانع الحياة هو الذي لا يقف طموحه عند حد، إنه الذي يعمل ولا يعرف المستحيل، بل إنه الذي إذا سئل عن المستحيل أين يكون، فإنه يجيب: إنه في عقول العاجزين. إنه الذي يزرع ولو حصد غيره، إنه الذي يبني ويشيد ولو سكن غيره، إنه الذي يسعى دائمًا للوصول إلى القمم لأنه يعلم أن الذين يرضون بالسفوح إنما هم العاجزون أصحاب الهمم الهابطة والعزائم الخائرة.
وإذا كنت في أمر مروم فلا تقنع بما دون النجوم
إن صانع الحياة والذي يحمل بين جنبيه نفسًا تواقة تحقق ما تريد ثم تتوق إلى ما هو أكبر فلا يرضى بالفتات، إنه الذي إذا بذل جهدًا وحقق طموحًا فإنه يبدأ يخطط للطموح القادم مثله كمثل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو يقول: لقد تاقت نفسي لبنت عمي فاطمة فتزوجتها، وتاقت نفسي للولاية فكانت ولاية المدينة المنورة، وتاقت نفسي للخلافة فنلتها، وإن نفسي الآن تتوق للجنة وإني أسأل الله أن أبلغها.
وعليه ومن أجل أن يبلغ تلك الغاية وهي منال ومبتغى كل من يريد صحبة محمد ﷺ في الجنة ويتمتع برؤية الله والنظر إلى وجهه الكريم في الجنة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} سورة القيامة، فإنه لا يكل ولا يمل ولا يعرف التعب ولا النصب، إنه الذي يعلم أن الدنيا ليست هي مكان الراحة وإنما الراحة الحقيقية هي في الجنة. وقد سئل عن ذلك رضي الله عنه لما قيل له: متى يرتاح المؤمن يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا راحة لمؤمن إلا مع أول قدم يضعها في الجنة.
إن صانع الحياة وباني المجد هو الذي ليس لآماله حد، إنه الذي يفعل ويقول ما قاله عقبه بن نافع فاتح شمال أفريقيا رضي الله عنه وقد أكمل فتح كل شمال أفريقيا حتى وصل إلى شاطئ المغرب العربي، فأوقف حصانه في ماء المحيط الأطلسي الذي كان يسمى يومها بـ “بحر الظلمات” ونظر في البحر بعيدًا وقال: “اللهم ربّ محمد لو أني أعلم أن خلف هذا البحر أرضًا لخضت البحر لإعلاء كلمتك يا رب العالمين”.
إنه برغم كل ما أنجزه وتحقق على يديه إلا أن همته العالية وتفاؤله الغامر وطموحه الذي لا يعرف اليأس ولا القعود جعله يريد المزيد والمزيد، ليس لذاته وشخصه وإنما لدينه وأمته وطاعة وابتغاء رضوان ربه.
إن صاحب الهمة العالية لا يتعامل وفق معايير الربح والخسارة المادية، وإنما هو الذي يعمل بالأسباب ويأخذ بها ويبذل الجهد للوصول إلى المطلوب، وحتى لو لم يتحقق له ذلك فإنه لا يقعد ولا ييأس ويجلس ويندب حظه، وإنما لسان حاله يقول:
عجبت لهم قالوا: تماديت في المنى وفي المثل العليا والمرتقى الصعب
فاقصر ولا تجهد يراعك إنما ستبذر حبًا في ثرى ليس بالخصب
فقلت لهم: مهلًا فما اليأس شيمتي سأبذر حبي والثمار من الربّ
إذا أنا بلغت الرسالة جاهدًا ولم أجد السمع المجيب فما ذنبي
إن صاحب الهمة العالية وصانع الحياة وباني المجد لا ييأس ولا يرضى لنفسه أن يكون في خانة اليائسين القاعدين، إنه لا يرضى لنفسه أن يكون في ذيل القافلة، بل يسعى ليكون دائمًا في الصدارة والمقدمة ولسان حاله يقول لكل العاجزين والمقصرين واليائسين:
لا تيأسن من الزمان وأهله وتقل مقالة قانط وحزين
فعليك بذر الحَب لا قطف الجنا والله للساعين خير معين
فما أجمل وأصدق ما قاله المرحوم الدكتور مصطفى السباعي: “إن أعظم مصيبة للحق في جنوده اليوم، فتور عزائمهم وقد كانوا في صدر الاسلام يكهربون الدنيا بنبضات قلوبهم”.
فإلى اليائسين القاعدين، إلى الذين تتقن أعينهم رؤية الظلام فلا ترى النور، إلى الذين يعشقون رؤية الشمس تتدلى للمغيب بينما ينفرون منها وهي ترسل أحزمة النور عند الصباح تطارد خيوط الظلام، الى الذين يرون الباطل بحدقة كبيرة فإذا به منتفخ منتفش، وينظرون إلى الحق بحدقة مريضة فإذا هو مضطرب متعثّر، إليهم نقول: لا تضطربوا هذا هو النظام، لا تنحرفوا هذا هو المنهج، لا تتراجعوا هذا هو النداء ولن يكبر عليكم شيء ما دامت كلمتكم الله اكبر.
فإلى الذين وضعوا على أعينهم نظارات سوداء فإذا بهم يرون الدنيا من حولهم حالكة السواد تبعث على الإحباط والتشاؤم والقنوط، فيرون الإسلام وقد أفل نجمه وغابت شمسه وانتهى دوره، إنني أقول لكل هؤلاء أن اخلعوا نظاراتكم السوداء وانظروا إلى الدنيا بنظارة صقيلة صافية وسترون الدنيا مثلما أراها تبعث بإذن الله على الأمل والتفاؤل والعزيمة والبشريات، إنكم سترون الدنيا كالقادم بعد غياب يحمل هدية ثمينة، وكالأم حرمت من الأطفال سنين طوال وإذا بها تحمل جنينًا بين أحشائها وعمّا قريب ستلده طفلًا يرى النور يملأ دنياها فرحًا وسرورًا.
فإلى اليائسين الذين يعتبرون عملية الإصلاح في المجتمع وتغيير سلوكيات أفراده وعاداتهم السلبية كمن ينفخ في رماد ويصرخ في واد، وكمن يرسم في وجه الماء، ذلك ولأن النتيجة عندهم معروفة سلفًا فإنهم لم يعودوا يعملون بل جلسوا يندبون حظهم و يتحسّرون على حالهم، لهؤلاء نقول: إن هبة الكرامة نهاية شهر رمضان الأخير وانتصار شعبنا عامة وشبابنا خاصة للمسجد الأقصى المبارك هو الدليل القاطع والجازم أن شعبنا بخير وأن شبابنا بخير وأنهم وإن جرفهم تيار الهوى والشهوات لكنهم سرعان ما يعودون إلى الجادة مع أول امتحان بل مع أول نداء للمسجد الأقصى يناديهم فيلبّون الندا.
فإلى اليائسين الذين نظروا إلى الباطل له صولة وجولة ودول وأحلاف وجيوش وأعلام ونفوذ، ونظروا إلى الحق فإذا به في أعينهم هزيل سقيم يحتضر ليس له دول تعلي شأنه وتهتف باسمه، لا بل إنه طريد حتى في موطنه وإذا بهم يهرولون ليسيروا في مواكب العبيد الذين يهتفون للباطل ويقتاتون من فتاته شعارهم “الكف ما بتلاطم مخرز”.
ما أتفه أولئك الذين لو بقوا في خانة اليأس لكفتهم، أما أن يكون مع اليأس ذلّ وهوان وتبعية فلا يفعلها إلا الأقزام الصغار الذين جهلوا بل لعلهم لم يسمعوا ما قاله إبراهيم بن الأدهم رحمه الله: “لا يقلّ مع الحق فريد ولا يقوى مع الباطل عديد”.
فإلى اليائسين الذين باتوا ينظرون إلى الكم لا إلى الكيف، وإلى البريق واللمعان غير آبهين بالجوهر والمضمون، إلى هؤلاء نقول ما قاله الشاعر لمحبوبته التي عيّرته بقلة عزوته وعشيرته:
تعيرنا أنّا قليل عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل
إلى اليائسين غير الصابرين ممن يزرعون في المساء ويريدون أن يحصدوا في الصباح، إلى الذين أعيتهم مقارعة الباطل ومغالبته، إلى الذين يريدون أن يأكلوا ويشبعوا وبطونهم ويملؤون جيوبهم على حساب كراماتهم وعزتهم وشرفهم، إلى الذين يفرّطون بثوابتهم ومقدّساتهم وقضيتهم مقابل فتات يلقى إليهم أو مناصب يتقلدونها، لهؤلاء نقول: إن هذا ليس فعل الأحرار، وقديمًا قالت المرأة العربية “تموت الحرة ولا تأكل بثدييها” أي أنها تفضل الموت جوعًا على أن تتاجر بعرضها وعفّتها مقابل الطعام. وهل عيش الذل والقعود والتبعية من شريف الأصل ذي المجد والماضي العريق إلا مثل زنا المرأة الشريفة بنت الأصل لا بل إنه أكثر عارًا وشنارًا، وقد قال الشاعر:
إن نفسًا ترتضي الإسلام دينًا
ثم ترضى بعده أن تستكينا
أو ترى الإسلام في أرض مهينا
ثم تهوى العيش نفس لن تكون
في عداد المسلمين العظماء
إلى هؤلاء اليائسين نقول بأنه رغم كل هذا الواقع الصعب والليل البهيم إلا أننا على موعد مع مشروع قادم ضخم وعظيم، إنه المشروع الذي يكبر بكثير مشروع “فرانك لويد رايت”، إنه المشروع الذي لم تسبقه ثلاث وثمانون سنة من العطاء بقدر ما أن قرونًا وقرونًا من المجد والعزة والرفعة سبقته. إننا على موعد مع المشروع الذي نذرنا له أرواحنا وأنفسنا، إنه المشروع الذي نعمل له وسنظل نعمل ولا يضرنا أن نقطف نحن ثماره، أم أن أولادنا وأحفادنا هم من سيقطفون ذلك الثمر.
إنه لا ضير في ذلك ما دام مشروعنا صاحبه الله عز وجل، وما دام مدير وقائد مسيرته وواضع لبناته محمد رسول الله ﷺ، وإنه الشرف الكبير لنا أن نكون من بين العاملين في هذا المشروع الذي أنا على يقين بقرب يوم افتتاحه والاحتفال بقطف نتائجه حتى لا يبقى بيت حجر ولا منذر إلا وسيناله حظ ونصيب من خيرات ذلك المشروع ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم.
هذا كلامي لليائسين المحبطين المتشائمين، أما الواثقون المتفائلون المصدقون بوعد الله إخوة المجد، فمنهم نستمد العزم ومعهم أقول ما قاله فضيلة شيخنا الدكتور يوسف القرضاوي:
فالدين والمنطق والتاريخ يقضي: أنهم قادمون
قلت لمن حولي: نعم المسلمون قادمون
قالوا: عجبت ما تقول، كيف تقول المسلمون قادمون؟
فأبشروا وأمّلوا أيها المضيعون والمحبطون
وهللوا وكبروا يا مؤمنون
فالفجر لاح
والديك صاح
والعطر عطر الحق فاح
والنهار قادم والمسلمون قادمون
فقل لأنصار الظلام: ما لكم لا تعقلون؟!!!.
من ذا يؤخر النهار؟!
من يصارع الأقدار؟!
من يعاند القهار؟!
من يناطح المريخ؟!
من يوقف التاريخ؟!
إلا بلهاء يجهلون.. أو صغارٌ يعبثون
فليتهم يفكرون ساعة ويصدقون
ليعلموا علم اليقين: أننا قادمون.
أجل.. أجل.. المسلمون قادمون
نحن إلى الفرج أقرب فابشروا
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
التعليقات