الريح والشمس - بقلم الشيخ كمال الخطيب
يافا 48
2021-12-10 06:14:00
إنها قصة رمزية تحكي أن الريح والشمس تراهنتا على أيهما تقدر على أن تنزع عن الفلاح معطفه، أما الريح فعصفت وقصفت وزمجرت وحركت الهواء ونشرت الخوف والرهبة من حول الفلاح الذي شعر بالبرد يخترق عظامه، فما كان منه إلا أن لبس فوق المعطف عباءة وشد عليها بيده. أما الشمس فإنها تسللت من بين رؤوس الجبال وبدأت ترتفع في السماء قليلًا قليلًا، ترسل بأشعتها الذهبية تحمل الدفء إلى جسد الفلاح بهدوء وأناة وظلت على تلك الحالة حتى شعر الفلاح بالحر وسال من جسده العرق، فما كان منه إلا أن نزع معطفه بيديه.
نعم، فمثل الشمس يجب أن نكون نحن معشر الذين أخذوا على عاتقهم أن يحملوا دعوة الله تعالى إلى العالمين إن علينا أن لا ننسى أيها الإخوة والأخوات أن دعوتنا تقوم على الفهم السليم للفكرة التي ندعو الناس إليها، وهي الفكرة الإسلامية، ثم على القدوة منّا نحن الذين يجب أن نكون أولى الناس بتطبيق ما ندعو غيرنا إليه، وهذا يتطلب أسلوبًا ونهجًا طيبًا ومقنعًا ولطيفًا يحرك في المدعوين الرغبة في الفهم ثم الاتباع للذي ندعوهم إليه.
أما القدح والفظاظة والغلظة والتهويش فهي ليست من عدتنا وعتادنا في الدعوة إلى الله تعالى بحال من الأحوال {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران 159.
إن مثل سليط اللسان، ومن يعتمد تجريح الآخرين والإساءة إلى أشخاصهم أو القسوة عليهم بالفعل والقول، فإن مثله كمثل الريح تسعى لنزع معطف الفلاح وهي تزمجر وتعصف وتقصف، فإن من الناس الكثير ممن يرفضون مجرد الإصغاء لمن يحمل فكرة ولو كانت دينية لمجرد أن صاحبها أو الذي يروج لها ثقيل الظل عسير الهضم، فظ القول، لا بل إن ذلك الأسلوب يخلق عند أولئك نوعًا من المكابرة والعناد والامتناع عن تقبل تلك الفكرة، ليس لذاتها ولكن بسبب أن من ينقلها ويدعو إليها هو أحوج من يكون للتخلق بأخلاقها والسير على هديها فعلًا وليس قولًا فقط.
كثيرون هم الذين يتمسكون بأفكارهم المهترئة ونظرياتهم التي فشلت وعاداتهم السلبية لأنهم يرون في حامل الفكرة الإسلامية كمن يريد إجبارهم على خلع ونزع تلك الأفكار تمامًا كما أرادت الريح أن تنزع معطف الفلاح، وإذا بهم يعيشون حالة من التحدي بل تأخذهم العزة بالأثم، مع أن الإثم يمكن أن يلحق بنا نحن الذين نتعامل مع الفكرة الإسلامية وكأن أحدنا بطل لفيلم من أفلام الرعب يقوم به فلا يُري من حوله إلا التخوف والترقب لا بل والعداء الواضح، إن علينا أن لا ننسى أننا دعاة ولسنا قضاة ولا جلادين، ولا نحن في مسابقة عالمية مغرية لمن يجيد أكثر من غيره الفظاظة والعبوس {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} فصلت 34.
أما الشاعر فقد قال:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
ترى وإذا كان المعلم الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علمنا ” إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق”. فإذا كان الإيغال في الدين برفق هو الأنسب للإنسان منّا مع نفسه وهو ينتمي للإسلام، فإنه هو الأنسب كذلك لغيرنا ونحن ندعوهم للالتزام بالإسلام غاية وبدعوتنا وسيلة من أجل خدمة هذا الإسلام العظيم الذي هو غايتنا ومبتغانا.
فإذا كانت آلية الريح لنزع معطف الفلاح هي التخويف والرعب والتحدي ولم تنجح، فإن الشمس قد اعتمدت آلية الرفق واللين والأناة والنفس الطويل، وقد تحقق لها ما أرادت.
فمثل الشمس يجب أن نكون، نرسل إشعاعات فكرنا وأخلاقنا وتعاملنا لينة دافئة تبعث في نفسية المدعو والسامع الانشراح والطمأنينة والقبول للذي ندعو إليه ونرغب ونحب أن يستجيب له.
إن الذين ندعوهم للإسلام وحتى من المسلمين أنفسهم إذا شعروا وأيقنوا واقتنعوا بأننا لا نحمل فكرتنا الإسلامية لمجرد التنظير الفكري الجاف، وإنها قد لامست شغاف قلوبنا وبرزت في مواقفنا وسلوكياتنا، فإنها ستبعث في نفوسهم الارتياح والشعور بالدفء، لا بل إن الواحد منهم سيقدم على دعوتنا منشرح الصدر، واثق الخطى رضي القلب لسان حاله يقول: أنا وما أملك منذ اليوم فداء لدعوة الله عز وجل ولدين الإسلام.
إنه الفلاح نفسه، وهو يحرث أرضه فتعترضه صخرة كبيرة فيسعى لإزالتها لتكون الأرض نظيفة من الحجارة والصخور، فإنه بين خيارين… إما خيار التحدي والاستعجال فيقوم بمحاولة إزاحة تلك الصخرة عن موضعها من خلال دفعها بيديه وحتى مستنجدًا بأولاده وجيرانه من الفلاحين الآخرين ولن ينجح لأن الصخرة تظل متمسكة بالتراب فليس من السهل إزاحتها.
وأما الخيار الثاني عند الفلاح بأن يعتمد سياسة اللين والنفس الطويل والأناة فيأخذ مجرفته ويبدأ بسحب وإزالة التراب من حولها ويستمر في ذلك حتى يعري الصخرة من كل ما حولها من التراب، حتى إذا كانت الصخرة بارزة لم تتحمل سوى دفعة صغيرة منه أو وخزة من رأس الفأس، وإذا بها تتدحرج من مكانها.
نعم، إنه الفارق بين التحدي والرغبة في سرعة إنجاز ما نريد وقد لا ننجزه، وبين الأناة والصبر واللطف حتى وإن تأخر قطف الثمر، إلا أن النتيجة مضمونة بأمر الله تعالى، صحيح إنه الطريق الطويل، لكنه الأضمن للوصول إلى النتائج وهي نفس الحكمة، بل السياسة التي اعتمدها دهاقين الإنكليز على مر العصور شعارها SLOW BUT SHOUR أي بطيء ولكن مضمون.
فمثل الشمس أيها الإخوة والأخوات كونوا… أشعروا غيركم بالحب والدفء والرفق، ليس لأن هذه سياسة أو تكتيك، بل لأن هذا هو الإسلام بعينه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} الأنبياء 107.
إن شقاء البشرية اليوم وتعاستها تحتاج إلى لمسة دافئة من أياديكم المتوضئة، وإلى كلمة صادقة ممن أضناهم وأتعبهم اللهث والضياع في صحراء الجاهلية والذنوب والمعاصي والتخبط الفكري، لتشدهم الرغبة ويحدوهم الأمل بقطرات من قربة دعوتكم تبلل ألسنتهم وشفاههم التي تشققت، وإن الذين بللتهم الذنوب وأغرقتهم الآثام والموبقات لفي أشد الشوق إلى إشعاعات دافئة من شمس دينكم ودعوتكم فيشعرون بالحنان والدفء بعد طوفان الضياع والآثام.
وإن الذين لفهم الليل الدامس بعباءة ظلمته الثقيلة فكادوا أن يقبعوا في خانة اليأس، نعم، إن مثل أولئك بحاجة إلى ومضات أمل من قاموس يقينكم وإيمانكم بالصبح والفجر القادم فتنير لهم ليلهم بل وتبدده بإذن الله سبحانه.
وإن مثل هذا العطاء منكم إنما يتطلب أن تكونوا شموسًا منيرة مشرقة وضاءة للحيارى من المسلمين، ومن يريد الخير من غير المسلمين. وأما أعداء الإسلام الذين لا يرضيهم إلا أن نكون نحن على دينهم ونتبع ملتهم، أو أن نرتد عن ديننا فيعادوننا ويعتدون على كل أرضنا وعرضنا ومقدساتنا، إن مثل هؤلاء يجب أن نتعامل معهم بأن نكون شموسًا متألقة ساطعة محرقة ورياحًا هادرة مزمجرة حتى يعلموا أن المسلمين لا يرضون إلا أن يعيشوا في هذه الدنيا سعداء كرماء.
ليس هذا وحسب، بل إن من دواعي وضرورة عرض الفكرة الإسلامية للمسلمين ولغيرهم أن لا تكون ولا يكون من يعرضها مترهلًا ضعيفًا مستجديًا متملقًا تحت تبرير وفلسفة أن المسلم يجب أن يكون متزنًا براغماتيًا في عرض فكرته. إنه الفارق الكبير بين المرونة والواقعية، بين التملق والتذلل والاستجداء، لأن استجداء الحقوق سيقود إلى ضياعها. وما أجمل ما قاله الأصمعي يوم شكّ في لفظ “استخذى” أي خضع وأحب أن يتشبّث: أهي مهموزة أم غير مهموزة، قال: قلت لأعرابي: أتقول استخذيت أم استخذأت؟ فقال الأعرابي: لا أقولهما، فقلت: ولم؟ قال: لأن العرب لا تستخذي أي “لا تخضع”، فرحم الله ذلك الأعرابي! لقد أبى أن يقبل الاستخذاء كلمة فكيف لو رأى العرب اليوم وقد قبلوها حقيقة!!!
وإذا كان الله سبحانه قد قال في محكم التنزيل {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، وإذا كان قال سبحانه {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، فإنه سبحانه هو الذي قال كذلك {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} وقال {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}. وإن رسول الله ﷺ قد قال: “إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق”. وقال: “اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير”.
نعم إن الدعوة للرسالة الإسلامية وتحبيب الناس إليها يجب أن يتلازم مع عزة المسلم وشموخه، لأن الضعفاء والمهزومين والمهزوزين لا يسمع لهم وليس للناس بهم حاجة خاصة وأننا في زمان يراد فيه للمسلم أن يعبد الله في زوايا المسجد بينما يتحكم في كل شيء في حياته الأشرار والرويبضات، وهذا يتنافى مع فهم المسلم لإسلامه.
فيجب أن نحسن دعوة المسلمين والناس أجمعين للإسلام بكل الرحمة واللطف وحسن الخلق ومعه الاعتزاز والشموخ بهذا الانتماء لسان حال كل مسلم أن يقول ما قاله الشاعر:
يا هذه الدنيا أصيخي واشهدي أنّا بغير محمد لا نقتدي
إسلامنا نور يضيء طريقنا إسلامنا نار على من يعتدي
فالمسلم يجب أن يكون نورًا، ولكنه يجب أن يكون نارًا على المعتدين، ويجب أن يكون شمسًا مشرقة وإذا تطلب الأمر فيجب أن يكون شمسًا محرقة على الظالمين المتطاولين.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون
التعليقات