الأربعاء ، 2 جمادى الآخر ، 1446 - 04 ديسمبر 2024
|
|
YAFA
sms-tracking ارسل خبر

الحاج شعبان أحمد سعيد بلحة 1932-2022 بقلم: عبد القادر سطل

يافا 48 2022-08-01 14:48:00
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم: "ومن المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبَهُ ومنهم من ينتظر وما بدَلوا تبديلا" صدق الله العظيم.
 
ليلة يوم السبت الأخير، وفي ذكرى الهجرة النبوية المباركة, انتقل إلى جوار ربّه عمي الحاج شعبان بلحة أبو أحمد عن عمر يناهز 89 عامًا قضاها عابدًا ساجدًا مناضلًا بارًا بوالديه, متفانيًا بتربية أولاده السبعة وتعليمهم وتربيتهم تربية صالحة.
 
حقيقةً مهما كتبت, لن أوفي هذا الرجل الانسان حقّه. فما نجهله عنه هو أكثر بكثير مما نعرفه. وكنت قد جالسته مرات كثيرة ولساعات طويلة نتجاذب الحديث عن يافا وفلسطين، التي كانت همّه الأكبر. عمي أبو احمد كان من الرعيل الأول الذي واكب النكبة، وقد تشتت شمل عائلته عام 1948 حيث بقي والده في يافا، أما هو وأمه وأخواته فقد هاجروا باتجاه غزة عبر البحر ووصل الى شاطئ الإسماعيلية وقضى فيها بعض الوقت ثم عاد إلى مخيمات اللجوء في غزة وبالتحديد مخيم البريج. 
 
ولكن شاء القدر أن يعود هذا الرجل المناضل إلى مسقط رأسه يافا ضمن عملية لمّ الشمل من قبل الصليب الأحمر. عندما داست قدماه ارض يافا, لم يدرك أن المدينة محتلة وقد سيطر عليها القادمون الجدد من شمال افريقيا وشرق أوروبا. أوقف والده سيارة الأجرة لنقلهم الي البيت في شارع ستين، وكان السائق يهوديًّا تفاجأ شعبان وتوجه الى والده بنبرة غضب قائلًا: "هذا يهودي". فأجابه والده وقال: "كلهم يهود". هذه كانت البداية وما كان بعدها هو مسيرة نضال مثابرة وعنيدة استمرت أكثر من سبعة عقود. كان في كل مرة التقي به يؤكد لي أنه انسان مسلم متفائل, وليس له أدنى شك بأن فلسطين ستتحرر ولن تبقى تحت الاحتلال. ويضيف: " كما سلمناها مفروشة سنعيدها كذلك". 
 
عمي أبو أحمد كان رجل المواقف. انسان مخلص لدينه وبلده, كان بارًا بوالديه حتى الرمق الأخير ولم يفتأ يذكرهم الى أن خانته الذاكرة. وحتى بعدها كنا نسمع منه ومضات من الماضي القديم, يذكر أسماء أشخاصٍ عاشوا معه قبل النكبة وبعدها بقليل. عنده من الأولاد سبعة، أربع بنات وثلاثة أولاد. حرص أولًا على تسميتهم بأسماء والديه، فكان الابن البكر أحمد سعيد على اسم والده، وكانت البكر من البنات فوزية على اسم والدته رحمها الله، وأخر العنقود صبحي على اسم أخيه الذي توفى قبل الاحتلال. 
 
عمل عمي شعبان لسنوات طويلة على تشغيل رافعة (وينش) في مجال البناء، وعمل بقول رسولنا الكريم صلى الله الله عليه وسلّم: " من عمل منكم عملًا فليتقنه". كان محبوبًا من قبل مشغليه وعمال الشركة من العرب واليهود، وخاصةً أولئك العمال العرب القادمون من الأراضي المحتلة في الضفة وغزة وكانت تربطه بهم علاقات ممتازة تطورت إلى تبادل الزيارات بين يافا والأراضي المحتلة. فيما بعد عرف عمي أبو أحمد بأبو العبد نسبة الى عمّه والد زوجته بعد أن تابع مسيرته في مطعم " أبو العبد" الذي عرفه كل بيت وطفل في يافا.
 
 كانت حياته مسيرة نضال مميزة، وكي لا أطيل عليكم أشير الى بعض النقاط الهامة في تاريخ يافا من خلاله.
 
بداية قصة عودته إلى يافا بعد الاحتلال وكونه من القلة القليلة من أبناء يافا الذين كانوا يجيدون القراءة والكتابة، فكان يجلس في نادي العمال ويقرأ ويكتب لأصدقائه الرسائل للأهل في الهجرة.
 
استطاع رغم الظروف القاسية والمعاناة المستمرة للأهل في يافا، من إقامة أسرة مع زوجته المربية فدوى شلغم فكان جلّ اهمامه تعليم أبنائه وبأفضل المدارس الأهلية في يافا، وقد تخرّج ستة منهم من الجامعات بلقب أول وثانٍ. ولم يوفر مجهودًا من أجل تربيتهم التربية الوطنية الفلسطينية، وكان يدفعهم دون تردد إلى لمشاركة في التظاهرات والفعاليات الوطنية والسياسية ضد الاحتلال.
 
الكثير لا يعرف أنّ عمي أبو أحمد سجن أكثر من مرة بتهمة التجسّس لصالح مصر في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذي أحبه وأحبّ فكره العروبي الاشتراكي. كانت عيناه تدمع عند سماع صوته أو مشاهدة مقاطع من حياته وسيرته, وكنت حريصًا على تزويده بذلك. وكان يسعد بمشاهدة المقاطع المختلفة من خطاباته ونشاطه. 
 
لم يكتفِ الاحتلال بسجنه، بل وفرض عليه الإقامة الجبرية لسنوات بالرغم من أن السلطة لم تستطع اثبات انتمائه للخلية الفلسطينية التي سجن قسم من افرداها، واستشهد جزء آخر منهم أو نُفي من البلاد. ولكنه تابع بعناد وإصرار مسيرته، دون خوف أو تراجع عن الثوابت الفلسطينية. وهكذا ربى ابناءه وبناته.
 
جميعنا يذكر أبا أحمد كإداري في فريق اتحاد شباب يافا، والذي صعد في تلك الفترة من الدرجة الثالثة الى الأولى. هذا الفريق الذي أحبه وظلَّ يذكر فريق النادي الإسلامي بطل فلسطين لسنوات عديدة, كان يردّد أسماء أعضائهِ فردًا فردًا. 
 
كانت لعمي أبو احمد مواقف مشرّفة من قضية الأوقاف الإسلامية بيافا. وفيما بعد التحق ليكون عضوًا فاعلًا في مؤسسة الرابطة لرعاية شؤون عرب يافا، وهي أول مؤسسة وطنية تقام بعد الاحتلال في يافا. وكانت تربطه علاقة حميمة بصديقه المرحوم فخري جداي الذي شغل منصب رئيس الرابطة، وعرف بنشاطه مع جماعة "الأرض". وكان لعمي دور الجندي المجهول في هذا المجال أيضًا.
 
كان حريصًا على التواصل ولم الشمل وصلة الرحم، فكان يخصّص يوم اجازته لزيارة الأهل والأصدقاء في غزة والضّفة. وكان يصطحب معه جميع أفراد العائلة. وكان حريصًا على إيجاد وسائل للاتصال بأخواته وأقاربه في الدول العربية كالسعودية والأردن ومصر، حيت تشتت شمل عائلته. وكم كان سعيدًا بسماع صوتهم من خلال الهاتف، بل وكانت دموعه تخونه وصوته يختنق من شدة اللهفة والاشتياق.
 
عمي شعبان أحمد بلحة كان عاشقًا ليافا، وتراب يافا، وبحر يافا. عمل في بياراتها وقطف من خيراتها، وركب أمواج البحر العاتية على مركب الصيد الذي اشتراه ليحافظ على صلتِه الخاصة بالبحر منذ نعومة أظفاره. كيف لا ووالده كان من بحارة يافا.
 
خانت الذاكرة الكثير من الأهل بعد النكبة نتيجة الصدمة التي تعرضوا لها، وفترة الخوف من إمكانية طردهم أو قتلهم في بيوتهم خاصةً بعد مجزرة كفر قاسم، كانوا يعتقدون أنّ عملية التطهير العرقي ما زالت مستمرة وليس هناك رادع يمنع اليهود من تصفية أهلنا في فلسطين. أقول ذلك لأنّ عمي ككثير من أبناء جيله، يذكرون أحداث ما قبل النكبة بالتفاصيل، ولكنهم بالكاد يتذكرون تفاصيل حياتهم الحالية، وكأن مسيرة حياتهم توقفت عند العام 1948.
 
كان الحاج أبو أحمد رجل المساجد وقلبه معلّق بها, وكان حريصًا على أداء صلاة الفجر في المسجد، فكان يستيقظ مبكرًا ليجهز نفسه للصلاة وبعد عودته من المسجد كان حريصًا على تلاوة القرآن حتى انبلاج شمس الصباح. 
رحل عنا الرجل كما جاء في الآية الكريمة، الرجل الصادق مع نفسِه ودينِه وأهله. كان يقول لي منذ سنوات لقد قدّمت ما لديّ، وانا بانتظار ساعة الفراق التي لا بدَّ منها. وشاء القدر أن تكون السنة الأخيرة هي الأصعب في حياته. 
 
عاش ومات على كتاب الله وسنّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلّم. وأختم بالحديث النبوي الشريف: "إذا ماتَ ابن آدم انقطع عن عمله إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتَفعُ به أو ولدٍ صالحٍ يدعو له". وكان لهذا الرجل من الثلاثة.
 
رحل عنا عمي شعبان أبو احمد، الذي ترك خلفه إرثًا نفتخر به ولا يقدّر بثمن. بالنسبة لي كان عمي أبو أحمد الوالد بعد وفاة والدي الشيخ فتح الله، رحمه الله، والصّديق والمربّي والموجّه ومصدر معلوماتٍ موثوق منه. كان القدوة الحسنة وكان رجل المواقف.
                                       
عبد القادر سطل 
يافا، تموز 2022
 
comment

التعليقات

11 تعليقات
إضافة تعليق

ام رامي

2022-08-03 19:53:11

الله يرحمه ويجعل مثواه الجنة

إضافة رد

ام داهود

2022-08-02 14:10:43

إنا لله وإنا اليه راجعون الله يرحمه ويجعل مثواه الجنه،قلائل من الرجال على قيد الحياه وشاهدون على عصر مضى لكنا نعيشه حتى الان

إضافة رد

ام لعبد

2022-08-02 11:25:20

الله يرحمه ويجعل مسكنه جمه الفردوس

إضافة رد
load تحميل
comment

تعليقات Facebook