هي سنوات كثيرة، بل عقود طويلة، ولعلها قرون مرّت على الأمة الإسلامية فيها عشنا في ظلمة ظلماء وجاهلية جهلاء ومرحلة وحقبة من حقب تاريخنا انتفش فيها الباطل وصال وعربد في بلاد الإسلام وسامنا فيها سوء العذاب، وتجرّعنا فيها كأس الذل ومرّ العلقم من أثر الهزائم والنكسات والنكبات توالت علينا. حقبة من حقب التاريخ لم نذق فيها طعم الانتصارات، ولم ترفع لنا فيها رايات، حتى أن شعوب الأمة الإسلامية أصبحت تتعطش للنصر أي نصر، للفوز أي فوز مثلما تتعطش الأرض الجدباء للماء، وكما تتعطش الأم للولد والذرية.
إن طول هذه الحقبة جعلنا نعتبر أن الفوز على فريق منافس في لعبة كرة القدم له نكهة خاصة ومذاق مميز مثلما حصل عندما فاز المنتخب السعودي على المنتخب الأرجنتيني في مونديال قطر، ومثلما حصل قبل سنوات في مونديال فرنسا عام 1998 عندما فاز منتخب إيران على منتخب أمريكا. إنها فرحة عابرة للحدود والجغرافيا لأنظمة الحكم، فرحة عاشتها شعوب العرب والمسلمين.
ولكن ولأن الأمة تتوق لانتصار حقيقي وليس مجازيًا، انتصار يعيد للأمة كرامتها ويحرر أرضها المسلوبة ويطهّر مقدساتها المدنّسة والمنتهكة، فإن لذلك النصر المنشود واليوم الموعود، متطلبات، بل قوانين وشروطًا لا بد أن تتحقق وأن تتوفر.
فمثلما أن للسماء وحركة المجرات والنجوم فيها قوانين، وأن للأرض ودورانها قوانين، وأن لنزول المطر قوانين، وهكذا في كل خلق الله ﴿وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ آية 2 سورة الفرقان، فمثل كل هذه فإنه النصر الذي نتمناه لا يأتي صدفة ولا اعتباطًا ولا يقع خبط عشواء، وإنما هي سنن ربانية.
وما النصر إلا من عند الله
إنه الله سبحانه الذي بيده ملكوت كل شيء والذي لا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذنه سبحانه، وإنه إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون، إنه الله سبحانه الذي قال :{وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} آية 126 سورة آل عمران. وهو الذي قال سبحانه: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ} آية 160 سورة آل عمران. فمن نصره الله سبحانه فلن يُغلب أبدًا ولو اجتمع عليه من أقطارها، ومن خذله الله فلن يُنصر أبدًا ولو كان معه العدد والعتاد.
وإذا كان النصر من عند الله سبحانه وحده فإن هذا يغنينا عن السؤال عن أسباب النصر ووسائله. فقد ينصر الله سبحانه القلة على الكثرة كما نصر أصحاب طالوت رغم قلتهم على أصحاب جالوت رغم كثرتهم {قَاْلَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} آية 249 سورة البقرة، بل وكما نصر الله أصحاب محمد ﷺ يوم بدر رغم قلتهم على أصحاب أبي سفيان وأبي جهل رغم كثرتهم {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ}آية 123 سورة آل عمران، لا بل إنه الله سبحانه القادر أن ينصر من لا يملك عدة ولا عتادًا، لا جيشًا ولا سلاحًا، كما نصر رسوله محمد ﷺ في الغار خلال رحلة الهجرة {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} آية 40 سورة التوبة. لكن هذا لا يعني أبدًا ولا يتعارض ولا يتناقض مع ضرورة الأخذ بالأسباب واستنفاد الأسباب المطلوبة لضمان النصر بإذن الله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} آية 60 سورة الأنفال.
من نصر الله نصره الله
إنه قانون آخر من قوانين النصر لا بد أن يتحقق لمن أراد أن ينصره الله على الأعداء. إنه القانون الذي نص عليه قوله سبحانه :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} آية 7 سورة محمد. وقوله سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} آية 40 سورة الحج.
أن ننصر الله سبحانه، لا يحتاج منا المال ولا الرجال ولا العتاد، وإنما يتطلب منا حسن عبادته سبحانه والاستجابة لأمره وتنفيذ أحكامه على أنفسنا وعلى أرضنا وطاعة رسوله ﷺ بكل ما جاء به عن ربه سبحانه {ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ} آية 41 سورة الحج.
وإذا كان اشتراط نصرنا نحن لله إذا كنا نسعى لأن ينصرنا سبحانه فكيف وأنّى أن تنتصر أمة أدارت ظهرها لدين الله وعصت ما جاء به رسول الله ﷺ، بل كيف لأمة أن تنتصر وقد ارتمى قادتها وولاة أمرها في حضن الأعداء، بل تآمروا معهم ضد أمتهم. بل كيف لأمة أن تنتصر وأن ينصرها الله سبحانه بينما حكامها قد أعلنوا الحرب على دين الله وعلى الدعاة الذين يبلّغون الناس دعوة الله وزُجّ بهم في غياهب السجون أو هُجّروا من أوطانهم، بينما دعاة الرذيلة والفساد قد فُتحت لهم الأبواب وسُخّرت لهم كل وسائل الإعلام وكل المنابر، بل ولعلهم اعتلوا أعلى المناصب ومراكز التأثير.
النصر لا يكون إلا للمؤمنين وبالمؤمنين
فالمؤمنون هم غاية النصر وهم عدته، فهم الذين ينصرهم الله وهم الذين بهم يتحقق نصر الله سبحانه كما قال سبحانه: {هو الَّذِي أيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبِالمُؤْمِنِينَ وألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} آية 62 سورة الأنفال.
فلأن المؤمنين قد انحازوا إلى الله سبحانه ودينه، فإنه سبحانه وقد أخذ على نفسه عهدًا أن ينصرهم {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} آية 47 سورة الروم، وإن نصره إياهم تحقق بالملائكة وقد أنزلهم سبحانه من السماء كما في معركة بدر والخندق، وكل ذلك من أجل نصر المؤمنين {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} آية 12 سورة الأنفال.
وليست قوى الأرض هي مما يسخّرها الله لنصر المؤمنين، وليست هي قوى السماء مما يسخرها الله لنصر المؤمنين، بل إنها أيضًا الطبيعة بكل ما فيها فإنها تصبح من جنود الله تعالى يسخّرها لنصرة عباده المؤمنين كما سلّط الريح يوم الخندق {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} آية 9 سورة الأحزاب. وكما أنزل المطر في يوم بدر {إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَٰنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلْأَقْدَامَ} آية 11 سورة الأنفال.
وليس أنه سبحانه يسخّر قوى الأرض وجنود السماء ويسخّر الطبيعة التي هي من خلقه سبحانه وقوانينها بيده لنصرة عباده المؤمنين، بل إنه الذي يسخّر أعداء المؤمنين أنفسهم ويسلّطهم على أنفسهم ليكونوا جزءًا من قدر الله سبحانه {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} آية 2 سورة الحشر.
المؤمنون ينبتون من الأرض ولا ينزلون من السماء
وإذا كان الله سبحانه يُنزل من السماء ملائكة هم جنوده يسخّرهم لنصرة عباده المؤمنين، إلا أن المؤمنين أنفسهم ينبتون من الأرض. إنهم ليسوا نباتًا بريًا ينبت في الخلاء، ولا هم حشائش طفيلية تقتات على غيرها، ولا هم بذور مهجنة، وإنما هم نبات أصيل نافع يزرعه زرّاع مخلصون صادقون هم آباء وأمهات صالحون ومصلحون يتعهّدونه بالرعاية حتى يستوي على سوقه ويؤتي أكله بإذن الله تعالى {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} آية 23 سورة الفتح. هكذا هم أصحاب محمد وأتباع محمد ﷺ الذين ينصرهم الله وينصر بهم. إنهم بنات وأبناء وشباب لم يتربوا على أخلاق ماركس ولينين، ولم تغريهم شعارات يمين أو يسار ولا شرق ولا غرب، وصدق في وصفهم قول الشاعر:
ملكنا حقبة في الدهر ملكًا يدعمه شباب طامحونا
شباب ذللوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا
تعهدهم فأنبتهم نباتًا كريمًا طاب في الدنيا غصونا
إذا شهدوا الوغى كانوا كماة يدكون المعاقل والحصونا
وإن جن المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا
شباب لم تحطمه الليالي ولم يسلم إلى الخصم العرينا
ولم تشهدهم الأقداح يومًا وقد ملأوا نواديهم مجونا
وما عرفوا الأغاني مائعات ولكن العلا صيغت لحونا
وما عرفوا الخلاعة في بنات ولا عرفوا التخنث في بنينا
ولم يتشدقوا بقشور علم ولم يتقلبوا في الملحدينا
كذلك أخرج الإسلام قومي شبابًا مخلصًا حرًا أمينا
وعرفه الكرامة كيف تبنى فيأبى أن يقيد أو يهونا
إنهم دعاة الإسلام والعلماء والمصلحون ممن عملوا لصناعة وزراعة وإنبات هذا الجيل الذي يشب على الطوق وينهل من معين الإسلام الصافي بلا شوائب، بعيدًا عن لوثة المذاهب والأفكار الدخيلة شرقية كانت أو غربية.
إنه الإسلام الذي يجعل حياة الفرد كلها لله، فلا ازدواج ولا صراع بين العلم وبين الإيمان، ولا بين سلطتين الدين والدولة كما كان يقول غيرنا :”دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر” فالمسلم يعتقد أن قيصرًا وما يملكه فإنه لله رب العالمين.
إنه الإسلام الذي يدعو إلى العدل والعدالة في العلاقات الإنسانية {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} آية 8 سورة المائدة.
إنه الإسلام الذي لا يختلف موقفه من الرأسمالية عن موقفه من الشيوعية فهو يقاوم هذا كما يقاوم تلك لأن كليهما مناهج أرضية قاصرة، لا بل إنها جاءت لتحقيق مصالح فئة على حساب الأخرى.
إنه الإسلام الذي يدعو إلى التدين الذي ينبت الحب ويكره الطائفية التي تنفث الحقد، فالتدين نور والطائفية نار.
إنه الإسلام الذي يقاوم ظلم الحكام مثلما يقاوم حكم الظلام. إنه الإسلام الذي يقول للحاكم لا تظلم ويقول للمحكوم لا تخنع ولا تخضع، بل إنه الإسلام الذي يعلّم المسلم أن يظل يقول في دعائه ما كان يقوله عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير كله. اللهم إنا نشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك”. إننا نتعبد إلى الله بهذا الفهم، وليس بفهم من قالوا عليك بطاعة ولي الأمر حتى وإن سلب مالك وجلد ظهرك.
فيحرم عليك أيها المسلم يا وريث المجد أن تقول للظالم نعم، وإنما يجب عليك أن تقول له كلّا ومليون كلّا كما قال الشاعر ابن الشام أنس الدغيم:
لست مني ولست منك
إذا لم ترفض الظلم
لست للمجد أهلًا
أي خير في الأرض إن لم تقلها
في وجوه الطغاة كلّا وكلّا..
هذا هو الإسلام، وهذا هو الفهم الذي يصيغ الجيل القادر على التغيير بإذن الله تعالى. وإنّا على هذا الفهم نسير ونربي أبناءنا وأحفادنا حتى يتحقق موعود الله سبحانه وتعالى.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
التعليقات