من منّا كان يتصوَّر أن تؤول تونس إلى ما آلت إليه بين عشيّة وضحاها؟ ومن كان يتصور ان وجه مصر سيتغير خلال بضعة ايام ؟ قهرٌ وظلمٌ واستبدادٌ جثم على صدورهم سنوات طويلة انهار في سويعات قليلة، لكن لا غرابة في ذلك إن كنّا مؤمنين بقدرة القادر الذي سجّل لنا في كتابه العزيز نماذج من الطواغيت أمثال فرعون وهامان وقارون والنّمرود وأمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة ولكن طواغيت اليوم لم يعتبروا ولا يزال حكّام الشّعوب العربيّة يضيّقون الخناق على الرعيّة إلى حدّ الوأد، إلى حدّ اليأس من الحياة، إلى حدّ أن يحرق الإنسان نفسه وجسده، أيظن أولئك الطّواغيت أنّهم خالدون؟ وأنّهم لا يحشرون؟ وأنّهم لا يحاسبون؟ وأنّهم في النّار لا يطرحون؟ ألم يقل المولى لنبيّه سيّد الخلق أجمعين: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر:30], ألم يقل كذلك: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) [الانبياء:34].تنفّس الناس أخيرًا الصّعداء وتذوّقوا رحيق الحريّة، هذه الكلمة التي أصبحت تتردّد على مسامعنا مرارًا وتكرارًا في اليوم الواحد,عبر وسائل الاعلام المختلفة , أصبحنا ننطق بها ونفقه حقيقة معناها، اليوم أصبح التّونسيّ الأبيّ يحترم غيره أكثرَ ويؤثره على نفسه، ويقضّي اللّيل كلّه يحرس ممتلكات غيره، لكن إلى أيّ حدّ أدركنا حقيقة هذه القيمة الإنسانيّة؟ وكيف يمكن أن نوظّف هذا المعطى الربّاني بما يرضي الله ورسوله؟
قال عمر الفاروق عن الحرّية: "متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا؟".
ان الحرية هي منطلق النهضة والتنمية والتقدم لدى الفرد والمجتمع، فالإنسان الذي لا يملك الحرية لا يستطيع أن يصنع الحياة، والإنسان الذي يشعر بالاضطهاد وسحق إرادته وشخصيته، لا يتفاعل ولا يستجيب للسلطة، ولا لمشاريعها وسياستها، ولا يستطيع أن يوظّف طاقاته، وبالتالي لا يستطيع النهوض أو التقدم.
وإن من أخطر أسباب تخلُّف عالمنا هو مصادرة إرادة الإنسان، وكبت حريته المشروعة، وإن السبب الأساس في ركود الأمم وتخلفها، هو طبيعة الأنظمة والسلطات الحاكمة، فإن الاستبداد السياسي والأنظمة التي لا تحترم مصالح الأمة تسبّبت في عالمنا الإسلامي بتضييع ثروات الأمة، وطاقاتها المبدعة، وجعلت منها أمة متخلفة تتلاعب قوى الاستعمار بمصيرها ومصالحها وثرواتها وخيراتها وإمكاناتها, ولكن اعلموا أنّ الحرية لا بدّ أن تكون حرّية مسئولة، تلك التي لا تنفك عن الالتزام والمسؤولية, فالإنسان وفق الرؤية القرآنية ومنطق العقل الإسلامي، يجب أن يكون مختارًا وحرًا، ليكون مسئولا، فلا مسؤولية بلا حرية، قال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد:10] (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان:3] (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ) [الصافات:24] (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف:6]. وهكذا تتلازم الحرية والمسؤولية في العقيدة الإسلامية، وفي الفكر الإسلامي, وهكذا تكون قيمة الإنسانية في كون الإنسان حرًا مسئولا, ولكي تنهض الأمة، فهي بحاجة إلى الحرية، بحاجة إلى حرية الفكر، بحاجة إلى أن يحرِّر العقل من الإرهاب الفكري، ويفسح أمامه المجال واسعًا لينطلق، وليفكِّر وليبدع وليمارس دوره الملتزم في مجال المعرفة وتشخيص المسار؛ فإن الإنسان المكبوت الحرية هو إنسان مشلول القدرة والإرادة، ولا يستطيع أن يوظف طاقاته وإمكاناته.لقد عشّش البوليس في عقول شعوبنا، لما يمارسه من قمع ومن ابتزاز والحال أنّ وظيفته الأساسيّة تقوم على خدمة الشّعب ومصالحه، وكلّ من تولّى السّلطة على العباد يتصوّر أنّه ملك الرّقاب وينسى أنّ الكرسي الذي اعتلاه تكليف لا تشريف، ينسى أو يتناسى مقولة عمر: "والله لو عثرت بغلة بالعراق لسألني الله عنها يوم القيامة لمَ لمْ تعبّد لها الطّريق يا عمر", فماذا نقول عن أرواح تُزهق؟ وكرامات تُداس؟ وأموال تُنهب؟ وأبرياء يملئون السّجون؟ وأحرار يهجّرون؟ بم سيجيب المسؤولون عن كلّ هؤلاء يوم العرض الأكبر؟ (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ) [الصافات:24].إن محنة شعوب العالم الإسلامي الأولى هي مصادرة حرية الإنسان، وسحق إرادته، وتسليط الاستعباد والكبت الفكري والسياسي عليه.
إن أصحاب الفكر ودعاة الإصلاح يعانون من القتل والإعدام السياسي وحالات التعذيب الوحشي والزج في السجون والهجرات والتشريد, ولكن نحمد الله تعالى اليوم في تونس التي أصبحت مضرب الأمثال بين الشّعوب العربيّة المقهورة وحتّى بين دول العالم المتحضّر، العالم المتحرّر، فأُطلقت الحرّيات، وتمّ إطلاق سراح المساجين السّياسيّين, وتمّ الإذن بعودة المهجّرين والمنفيّين، تونس بلد الرّجولة والنّخوة والإرادة التي قهرت الجبابرة الذين أفسدوا العباد ودنّسوا البلاد، وتاجروا بأعراضهم وأرزاقهم وممتلكاتهم، وكدّسوا الثّروات حسبوا أنّ أموالهم تخلّدهم, كلاّ, ثمّ فرّوا وذلّوا وخرّوا على الرّكب وزجّ بهم في السّجون, وما ينتظرهم يوم القيامة أشدّ وأخزى.لقد انطلق الإسلام مع الإنسان الحرّ المختار، فوهبه حرية الفكر، وحرية السلوك، وحرية التملك وحرية العمل، والحرية السياسية، غير أنه قرن الحرية بالالتزام والمسؤولية.
والإسلام أقام الحياة السياسية على أساس الحرية السياسية، أقامها على أساس الشورى والتشاور ومشاركة الأمّة ورقابتها للسلطة، وثبّت هذا المبدأ في كتابه الكريم بقوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [الشورى:38] (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [التوبة:71].ومن هنا انطلق في إعطاء الأمة حق اختيار حكَّامها وولاة أمورها غير المعصومين وفق مواصفات مبدئية محددة، ومنحها المحاسبة والرقابة بسلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, بل وأمر الله نبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم- المسدد بالوحي الإلهي أن يستشير أمته ليدربها على حياة الشورى، واحترام رأي الآخرين وإشراكهم في صناعة مصيرهم.
لقد خاطب الله سبحانه نبيه بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159]وبذا حدَّد القرآن علاقة القائد السياسي بالأمة التي يقودها، بأنها علاقة حب واحترام ورحمة ومرونة ومشورة، قالها مرّة أخرى عمر الفاروق عندما تولّى خلافة المسلمين: "إنّي قد ولّيت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وإن أخطأت فقوّموني", فردّ عليه فرد من أفراد الرعيّة: "وإن أسأت لنقوّمنّك ولو بحدّ السّيف" هذا الردّ الشّديد العنيف لم يغضب منه عمر ولم يقتصّ من الرّجل ولكنّه حمد الله على ذلك, وهذا ما نطمح إليه اليوم في تونس وفي مصر ما بعد الثّورة المباركة، وهذه المبادئ قيم دستورية ثابتة في الفكر السياسي الإسلامي الذي يحافظ على حرية الانسان وكرامته .
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]