لا شك أن الثورات والانتفاضات الشعبية التي تجتاح العالم العربي؛ التي نجحت منها وحسمت أمرها كما في تونس ومصر، أو تلك التي ما تزال تواجه أنظمة الفساد والطغيان بالصدور العارية وتواجهها تلك الأنظمة بالنار والبارود كما هو الحال في اليمن وفي ليبيا وسوريا، إن هذه الثورات العربية التي لم يزد عمرها عن ثلاثة أشهر تمثل انعطافًا مفاجئًا وحادًا في السياسة العربية، وهي ولا شك ستشغل كثيرًا أصحاب الرأي والمحللين وعلماء الاجتماع والمؤرخين من الذين سيخوضون في دراسة وتحليل دوافع وأسباب هذه الثورات وعناصر نجاحها ثم تأثيرها وانعكاساتها على هذه الدول، بل على الأمة الإسلامية والعالم العربي، لا بل على العالم أجمع.
ولعلّ من أبرز ما سيشغل هؤلاء هو السؤال: كيف انتقلت وكيف تحولت هذه الشعوب من شعوب خائفة ذليلة خانعة يسوقها صاحب الجلالة والفخامة والسيادة كما يسوق الراعي قطيعه إلى شعوب تخلع عنها لباس الخوف، وإذا بها تطالب بإسقاط الأنظمة الفاسدة، وبالصدور العارية، يتقدم هؤلاء ليواجهوا عشرات الأجهزة الأمنية التابعة لكل واحد من الأنظمة الدكتاتورية، وكلما زادت الأنظمة من بطشها زادت الشعوب من جرأتها وتحديها، بل إن سيلان الدماء أصبح وقودًا يزيد الثورة اشتعالًا ولهيبًا.
صحيحٌ أن كل شعوبنا هذه التي ثارت لم تكن تحكم بشرع الله تعالى، لا بل إن العلمانية هي التي تسود نواحي الحياة الثقافية والاجتماعية، إلا أن هذا لم يُغيّب مكنون الحس الديني والطاقة الإيمانية الهائلة التي كانت تختلج في صدور هؤلاء. ولقد وضح هذا جليًا حين أصبحت صلاة الجمعة هي موعد الانطلاق في المسيرات والمظاهرات والاعتصامات.
وإن الإسلام قد زرع في نفوس أبنائه أن الخضوع والذلة لا تكون من العبد لعبدٍ مثله وإنما هي لله رب العالمين وحده. ومثلما الركوع والسجود والانحناء لله تعالى هي واجب وهي تزيد العبد شرفًا، فإنها إذا كانت لإنسان مثله فإنها تصبح حرامًا وتزيد الإنسان مهانة وذلًا واحتقارًا.
والنفس البشرية يصيبها أحيانًا الضعف والقلق والحرص على الحياة، ويظن الإنسان عندها أن النفع والضر والحياة والموت هي بيد ذلك الحاكم أو المسؤول وإذا به يميل إلى الخنوع والخضوع، بل إنه يهدر كرامته ويبيع نفسه بثمن بخس فيصبح يسبح بحمد ذلك الزعيم إلى الحد الذي -ولكثرة من يفعل فعلته- يجعل ذلك الزعيم تصيبه لوثة العظمة والكبرياء، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير"، وقد أوصى صلى الله عليه وسلم ابن عمه ابن عباس، وكان غلامًا فقال له: "إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف".
وإذا كان الناس في غالب الأمر يذلون أنفسهم ويمسخون آدميتهم ويهدرون كرامتهم ويتزلفون وينافقون ويقبلون الدنية في دينهم ودنياهم لواحدة من اثنتين، فإما الخوف من الموت أو الخوف على الرزق. وهنا بالذات فإن الله جل جلاله قد قطع سلطان ونفوذ وقدرة البشر عن الرزق والأجل وجعل أمر الآجال والأرزاق بيده سبحانه، حيث أن الله سبحانه ومن يوم أن يبلغ الجنين 120 يومًا فإن الله تعالى يرسل ملكًا ينفخ فيه الروح ويكتب رزقه وأجله، وربنا سبحانه هو الذي قال: (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) (الأعراف: 34)، وقال سبحانه: (وفي السماء رزقكم وما توعدون * فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون) (الذاريات: 22-23)، ولقد قال الإمام الشافعي في هذا:
لا تخضعن لمخلوقٍ على طمعٍ فإن ذلك نقصٌ منك في الدين
واسترزق الله مما في خزائنه فإن رزقك بين الكاف والنون
ومثلما أن الإسلام قد حرم على القوي والغني وصاحب السلطان أن يستكبر على العباد، حيث قال في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان في قلبه مثقال حبة من كبر كبّهُ الله على وجهه في النار"، وفي المقابل فإن الإسلام قد حرّم على الفقير وصاحب الحاجة وعامة الناس أن يذل لعبدٍ مثله، حيث قال في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جلس إلى غني فتضعضع له لدنيا تصيبه ذهب ثلثا دينه ودخل النار".
نعم؛ إن الإسلام لا يقبل الكِبر ولا يقبل الذل الذي يخدش الكرامة ويجرح المكانة، والله لا يريد للمسلم ذلك، قال في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعطى الذلة من نفسه طائعًا غير مُكره فليس منا".
وإن الإسلام أمر أبناءه أن يثبتوا ويستقروا في المكان والأرض التي ينبت فيها العز وتعلو فيها الكرامة، فإن استحال عليهم ذلك فليتركوا دار الهوان وينشدوا الكرامة في أي مكان. قال في هذا ربنا سبحانه: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم، قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) (النساء: 97).
إن في هذه الآيات تعبيرا عن كراهية الإسلام لاحتمال الهوان والرضا بالذل واستنهاضا للهمم للتخلص من حياة الذل ليعيش حياة استعلاء الإيمان، والذي معناه أن يرفض أن يصغر لذي سلطان أو أن يكون وضيعًا مُهانا أو أن يكون ذَنَبًا لإنسان. إنها كبرياء التمرد على الباطل والتعالي على الظالمين والترفع عن سفاسف الأرض وأباطيل الحياة، وإنه الرفض والثورة على الحياة المغمسة بالذل، ولقد قال الله سبحانه: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا) (فاطر: 10).
ولقد عاب الله تعالى في القرآن الكريم على بني إسرائيل حرصهم على الحياة، أية حياة؛ (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة...) (البقرة: 96)، وعندها وبسبب الحرص على الحياة؛ أية حياة، حتى لو كانت حياة بالذل والهوان والاحتقار، فعندها سيكتب على الشعب كله الرضا بالذل والهوان، بينما يرفض الإسلام للمسلم أن يعيش حياة الذل والهوان، إنه يرفض له أن يكون مستباحًا لكل طامع أو هدفًا سهلًا لكل هاجم، بل إن عليه أن يستميت دفاعًا عن عرضه وأرضه ومحارمه ومقدساته، حتى وإن سالت في سبيل ذلك دماؤه أو أزهقت روحه، لأنها ستكون رخيصة من أجل حياة الشرف والكرامة. ولقد جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: "يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أن يأخذ مالي يغتصبه، قال: لا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني، قال: قاتله، قال: أرأيت أن قتلني، قال: أنت في الجنة، قال: أرأيت أن قتلته، قال: هو في النار". وإذا كان هذا حال المسلم مع مسلم مثله ولكنه ظالم باغٍ مستبد يريد أن يغتصب ماله فعليه الدفاع عن ماله وأرضه، فكيف يكون الحال إذا كان هذا الظالم المستبد هو عدوٌ فاجر؟! قال صلى الله عليه وسلم: "ومن قـُتل دون عرضه فهو شهيد ومن قـُتل دون أرضه فهو شهيد".
إن المسلم يستمد قوته من الحق الذي يعتنقه، لأنه لا يعمل لشهوة عارضة ولا لنزوة طارئة ولا لمنفعة شخصية ولا لعصبية جاهلية ولا للبغي على أحد من البشر، ولكنه يعمل من أجل الحق الذي عليه قامت السموات والأرض، والحق أحق أن ينتصر والباطل أولى أن يندثر (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق). إن من مظاهر شجاعة المسلم ثباته في موضع الشدة، فلا تتزلزل له قدم ولا يتزعزع له ركن، إنه لا يخشى الناس إن قلوا أو كثروا ولا يُبالي بالأعداء وإن أرغوا وأزبدوا، إن أبواب الخوف كلها تنسدّ في وجهه فلا يعود يَخَاف إلا ذنبه ولا يخشى إلا ربه. إن منطق الأرقام وميزان القوى المادية لا يخيفه ما دام يعلم أن معه القوة العظمى وأنه فائز على الحالتين، فإن ظهر هو على عدوه فاز بسعادة الدنيا، وإن ظهر عليه عدوه فاز بسعادة الآخرة، إنه لا خسارة في منطِقهِ أبدًا، لأن البقاء على قيد الحياة والعيش في قوافل العبيد وعند السفوح ومد اليد إلى فتات موائد اللئام... فإن بطن الأرض خيرٌ من ظهرها عند ذلك.
وإن أكثر ما يذل الرجال ويضعف نفوسهم هو حرصهم على الحياة وإن كانت ذليلة، والهروب من الموت وإن كان كريمًا. إن المرء إذا هانت عليه الدنيا لم يبال بالموت وهان عليه جبابرة الأرض وصغر في عينه كل ملوك الدنيا، أما الحرص على الدنيا والخوف من الموت فهما اللذان يضعفان النفوس ويُنكسان الرؤوس ويذلان الأعناق. ولقد كانت من الروائع مقولة خالد بن الوليد رضي الله عنه، المدفون هناك في حمص في سوريا: "ها أنا ذا ما من موضع في جسدي إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير، ألا لا نامت أعين الجبناء). نعم؛ إن كل الحروب التي خاضها خالد بن الوليد لم تكن سببًا في موته وإنما مات على فراشه، في إشارة ورسالة إلى كل الجبناء الذين يترددون عن مقارعة الباطل ومواجهة المُبطلين.
إنه وعلى مدار التاريخ الإسلامي سُطرت مفاخر من البطولات والمواقف المشرفة في وجه الظلمة والطغاة قادها العلماء والصالحون وعامة الناس من الذين تشربوا حلاوة الإيمان ورفضوا أن يحنوا الهامات وأن يذلوا القامات لغير الله رب العالمين. فها هو الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك وقد دخل عليه الإمام طاووس، فسلم عليه باسمه وخلع الحذاء بجانب بساطه وجلس إلى جانبه. فغضب هشام وقال له: تناديني باسمي وتخلع حذاءك بجانب بساطي وتجلس على سريري بجانبي بدون إذني؟! فقال له العالم الرباني طاووس: إني خلعت الحذاء بجانب بساطك، فإني أخلعها بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات، وإني لم أسمك بأمير المؤمنين لأني أعلم أن ليس كل المؤمنين راضين عنك، وأنا لا أكذب حتى أقول لك أمير المؤمنين، وأما أني جلست إلى جانبك فإني سمعت عليًا بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل يجلس وحوله قوم قيام".
وفي التاريخ المعاصر فإننا سمعنا وسمعت الدنيا موقف شيخ المجاهدين عمر المختار رحمه الله وهو يقارع المستعمرين الطليان، إنها عباراته وجمله التي تكتب بالذهب وهو يقول قبيل أن يعلقوه على عود المشنقة بعد أن وقع في أسرهم: "لئن كسر مدفعكم سيفي فإن باطلكم لن يكسر حقي"، "نحن قومٌ لا نستسلم ننتصر أو نموت"، وكانت كلماته الأروع حين قال له بعضهم: اطلب العفو نطلق سراحك. فابتسم ابتسامة ساخرة وقال: "لو أطلقتم سراحي لعدتُ إلى محاربتكم من جديد". وقال أيضًا: "إنكم لا تقاتلون شخصي ولكنكم تقاتلون الحق الذي أؤمن به، فإذا قتلتموني فاستعدوا لقتال الأجيال من بعدي".
وها هو المرحوم الشيخ عمر التلمساني؛ المرشد الثالث لجماعة الأخوان المسلمين بعد الشهيد الشيخ حسن البنا والشيخ حسن الهضيبي، وقد دُعي لحضور استقبال للرئيس السادات في مدينة الإسماعيلية، فراح السادات يخطب في الناس ويتهم جماعة الأخوان المسلمين بأنهم وراء الفتنة الطائفية في مصر، تمامًا مثلما اتهمهم قبله جمال عبد الناصر وبعده حسني مبارك، وقد ثبت بعد الثورة أن هؤلاء وأزلامهم كانوا وراء تلك الفتنة، وما تفجير كنيسة القديسيْن في الإسكندرية ليلة رأس السنة الأخير إلا خير شاهد، حيث كان وراء ذلك التفجير حبيب العادلي، وزير الداخلية في النظام المخلوع، فلما قال تلك الكلمات -أي السادات- انبرى له التلمساني واقفًا يرد عليه قائلًا له: "الشيء الطبيعي أنه إذا ظلم أحدنا غيره أو ظلم بعضنا بعضًا فإننا نتوجه ونشكوه إليك لتنصفنا، أما وأنك أنت الذي تظلمنا فإننا نشكوك إلى الله رب العالمين". فأصيب السادات بالذعر من جرأة الشيخ التلمساني ومن قوة كلماته، وقال له أمام الناس "اسحبها" فقال له: "ولماذا اسحبها؟ فإنني لم أشكُكَ إلى ظالم وإنما شكوتك إلى رب عادل".
إن الأصوات المنبعثة هذه الأيام من رحاب العالم العربي، والتي تنادي بتغيير النظام وتطالب بالحريات والعدالة والكرامة، تلك الأصوات التي جعلت مبارك وزين العابدين يهربان إلى شرم الشيخ وإلى جدة، وهي الأصوات المنبعثة من أرض الشام وبلاد اليمن ومن ليبيا ومن غيرها وستنبعث من مواقع أخرى، هذه أصوات قد غابت لعقود طويلة بسبب ظلم الطغاة وصلفهم واستبدادهم. إنهم أذلوا شعوبهم وقهروها وجوعوها وسلبوا خيرات البلاد، ومن خالفهم فإما إلى السجن أو إلى القبر، والسعيد هو الذي فرّ هاربًا خارج الوطن، ومن بقي من الناس، وهم الأكثرية، فبين منافق متزلف وبين صامت مقهور.
وإن قاموسنا الشرعي والتاريخي ليحفل بالأمثلة والمصطلحات التي تبعث في الأمة معاني الرجولة والإقدام في مقارعة الباطل والطواغيت. فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام ظالم فنهاهُ فقتله". نعم؛ إن حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيد الشهداء، وقد قتل في معركة أحد، وإن معه في نفس المرتبة ذلك البطل، أيًا كان اسمه الذي وقف ينادي ضد الظالم ويطالبه بالتغيير ولكنه قتله. إنهم كذلك بإذن الله كل شهداء ثورات التغيير في اليمن وفي مصر وفي سوريا وفي ليبيا وغيرها من الذين قاموا بأفضل الجهاد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تُوُدِّع منها"، إنها الأمة الميتة حتى لو كان تعدادها عشرات ومئات الملايين، تلك الأمة التي لا تقول للظالم يا ظالم وللطاغية يا طاغية.
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد قال تلك الرائعة من روائعه: "أحب من الرجل إذا سيم خطة خسفٍ أن يقول بملء فيه لا". أي أنه الذي إذا أحس وشعر أن هناك من يريد أهانته والحط من قدره وإذلاله فليرفض وليقل بأعلى صوته وملء فيه "لا"، هذه هي الرجولة وهذه هي البطولة وهؤلاء هم الرجال الذين يحبهم عمر بن الخطاب وكلنا نحبهم. نعم يا عمر؛ "لا" وألف "لا" لمن أذلونا وظلمونا وتآمروا علينا، وفرطوا في أرضنا وعرضنا ومقدساتنا وسفكوا دماءنا، فلا إله إلا الله محمدٌ رسول الله.
لا للظلم
لا للطغيان
لا للذل
لا للخنوع
لا لخيانة الزعماء، لا للعملاء، "لا" وألف "لا"....
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالديَّ بالمغفرة
(والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]