نهاية الأسبوع الماضي أقرت الكنيست الصهيوني مشروع القرار المعروف باسم “قانون القومية” أو “يهودية الدولة”. ومع أن هذا القرار له تداعياته الخطيرة علينا نحن الفلسطينيين المتجذرين في وطننا، وأن هذه التداعيات والإنعكاسات هي مثل الموجات التي تنتج عند إلقاء حجر في مستنقع ماء.
لن أتردد بالقول أن إقرار هذا القانون هو صفعة القرن للعمل والتجربة البرلمانية، وللأحزاب العربية التي خاضت انتخابات البرلمان الصهيوني، وهو الدليل القطعي على أن العمل السياسي البرلماني كان لصالح المشروع الصهيوني نفسه أكثر مما هو لصالح شعبنا، طالما به تبجح سياسيون إسرائيليون أنهم واحة الديموقراطية، لا بل أن نوابًا عربًا بقصد أو بغير قصد، بسوء نية أو بحسن نية كانوا “سفراء المكياج” للدولة العبرية قد حسّنوا وجهها القبيح وجمّلوا صورتها المشوهة، حيث بإقرار هذا القانون قطعت جهيزة قول كل خطيب من أن هذه الكنيست هي من أجل اليهودي واليهودي فقط.
ولن أتردد بالقول مفتخرًا أن الموقف الذي وقفته الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليًا بعدم خوض انتخابات الكنيست الصهيوني لم يكن موقفًا عاطفياً ولا مناكفة سياسية، وإنما كان يمثل نظرة ثاقبة ورؤية عميقة وفهمًا استراتيجيًا لطبيعة السياسة الإسرائيلية. لقد رأينا وشاهدنا معنى التهميش الحقيقي إلى حد الاستهتار بالناخب بالعربي وبمن أرسله هذا الناخب ليمثله في البرلمان، ورأينا بالمقابل أن المصطلحات مثل الواقعية والمرونة السياسية لم تكن إلا شعارات رنانة وبراقة، وعليه فإن الذين قاموا بتمزيق مسودة قانون القومية من أعضاء الكنيست العرب كان الأولى بهم أن يمزقوا البطاقات السوداء لعضويته في برلمان اليهود بدل تمزيق مسودة القرار الظالم.
وعليه فإنني لن أناقش في حيثيات هذا القرار والقانون العنصري، وإنما سأشير إلى جملة لفتات هي من وحي الواقع الذي نعيشه، وهي من إفرازات العلاقة بيننا وبين من يسعون لتثبيت هويتهم الدينية مقابل من يتنكرون من أبناء جلدتنا لهويتهم الدينية.
#يهودية الدولة وتهويد العقل
إن ما سعت إليه المؤسسة الإسرائيلية قديمًا وحديثًا هو أن تنجح في تهويد العقل العربي والإسلامي والفلسطيني حتى يصل الأمر بأن يتقبل كل هؤلاء الرواية والفهم الإسرائيلي للأشياء. إنها تريد للعقل العربي والإسلامي أن يخضع للمسلّمات اليهودية الصهيونية ويردد ما تذيعه أبواقها، ويستسلم لما تمليه سياستها. فينسى ما اغتصبته من أرض ومن شردت من شعبنا. وكما يقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه -أعداء الحل الاسلامي-صفحة 77: “أن ينادى بالسلام الذي تريده دولة العدوان والاغتصاب وفق مفهومها هي للسلام وتفسيرها للسلام. إنه سلامها هي وأمنها هي، فهي سيدة المنطقة وهي مالكة الزمام، وما على الجميع إلا الخضوع والاستسلام، تحكّم الذئب فأخضع أيها الحمل”.
نعم لقد نجحت المؤسسة الإسرائيلية قبل إعلان يهودية الدولة بتهويد عقول من صدّقوا أن في إسرائيل ديمقراطية، وأن هناك لعبة انتخابيه يمكن من خلالها تحقيق مصالح. لقد أوصلت البعض إلى أن القضية قضية حقوق وميزانيات وفرص عمل وغيرها، ولا بأس بعد ذلك أن تهوّد العقل ومسخت الهوية الدينية والقومية والوطنية. نعم إن القضية قضية هوية لابد من الحفاظ عليها، وتاريخ يجب ألّا ينسى وحق مغتصب يجب ألّا يضيع.
ومثلما أنها نجحت في تهويد عقول من صدّقوا بالخيار البرلماني وغرقوا فيه، فإنها نجحت في تهويد عقول أنظمة وقيادات فلسطينية وعربية عبر جعلهم يقبلون بخيار المفاوضات ومشروع السلام، وأنه سيجلب الخير والنفع الاقتصادي للمنطقة وأهلها وتجنبهم الحروب.
سبعين سنة والبعض يصدق ما سماها فضيلة الشيخ القرضاوي “الإسرائيليات الجديدة”. سبعين سنة والبعض يخوض تجربة العمل البرلماني، وإذا بهم كمن يجري خلف سراب حيث توجت اسرائيل ذلك بقانون يهودية الدولة، وفي المقابل فإنها عشرات السنين حيث الأنظمة والقيادة الفلسطينية تجري خلف كذبة أوسلو ومشروع السلام، وإذا بها تتوج بصفقة العصر وإلغاء حق العودة، وإعلان القدس عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة وما تبع ذلك من نصوص صفقة القرن ما ظهر منها وما بطن.
نعم فقبل إعلان يهودية الدولة، فإن المؤسسة الإسرائيلية قد نجحت في تهويد عقول البعض لدرجة قبولهم بالأحاديث والرواية الإسرائيلية “الاسرائيليات الجديدة”.
#دولة يهودية نعم دولة إسلامية لا
لعل من الخير الكامن بين شرور قانون يهودية الدولة، أن الحكومة الإسرائيلية قد كشفت المستور وأماطت اللثام عن حقيقة وطبيعة الصراع بأنه صراع ديني حضاري عقائدي، وليس صراعًا سياسيًا واقتصاديًا ولا هو صراع قومي ولا وطني. إنه صراع ديني بكل ما للكلمة من معنى.
إن إسرائيل تحاربنا بالدين بينما يتنكر فلسطينيون ومسلمون وعرب لدينهم. إن إسرائيل تعتز وتعلن يهوديتها، بينما يحارب الإسلام في بلاد المسلمين. إنهم ووفق بنود قانون يهودية الدولة فإنهم يعظمون السبت بينما نحن لا نعظم الجمعة. إنهم يحتكمون إلى التوراة، بينما ندير نحن الظهر لأحكام القرآن. إنهم يفتخرون بموسى وداود وسليمان (ونحن نجلهم ونحترمهم أكثر منهم) بينما يتطاول مسلمون وعرب على أبي بكر وعمر بل وحتى على محمد صلى الله عليه وسلم.
إن إسرائيل تفتح المجال لكل الأحزاب والحركات والتيارات الدينية، لا بل إن من هذه الأحزاب تتشكل حكومة إسرائيل ومجلسها الوزاري المصغر، بينما تحارب الحركات الإسلامية والدعاة والعلماء، ويحارب المشروع الإسلامي في بلاد العرب والمسلمين.
إن حكومة إسرائيل وقد أقرّت قانون يهودية الدولة والدين منغمس حتى النخاع في كل نواحي الحياة الإسرائيلية والاجتماعية اليهودية، بينما يطلق عرب مسلمون وفلسطينيون مصطلح “الإسلام السياسي” وذلك للتنفير من مضمونها ومن الدعاة الصادقين الذين يدعون للإسلام الشامل بوصفه عقيدة وشريعة وعبادة ومعاملة ودعوة ودولة.
إن الدين في حياة الإسرائيليين موجود في الكنيس وفي الكنيست، بينما يريد عرب ومسلمون وفلسطينيون للدين أن يكون في المسجد فقط، ولا يتدخل في نواحي الحياة عامة ولا في السياسة خاصة، وإلّا فإنه الإسلام السياسي. إنهم يريدون للإسلام أن يكون له رأي في الحيض والنفاس والصلاة على الأموات، ولا يريدونه في الحكم والاقتصاد والحياة العامة. يقول فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي في بيان فهم رسالة الإسلام في كتابه -الدين والسياسة-: “إن للإسلام موقفًا واضحًا وحكمًا صريحًا في كثير من الأمور التي تعد من صلب السياسة. فالإسلام ليس عقيدة لاهوتيّة، أو شعائر تعبديّه فحسب، أعني إنه ليس مجرد علاقة بين الإنسان وربه ولا صلة له بتنظيم الحياة وتوجه الدولة والمجتمع، كلا إنه عقيدة وعبادة، خُلق وشريعة متكاملة. وبعبارة أخرى هو منهاج كامل للحياة بما وضع من مبادئ وما أصّل من قواعد وما سنّ من تشريعات وما بيّن من توجيهات تتصل بحياة الفرد وشؤون الأسرة وأوضاع المجتمع وأسس الدولة وعلاقات العالم”.
فلماذا يقبل البعض من بني جلدتنا ويتعامل بواقعية مع دعوة اليهود لإقامة دولة اليهود، بينما يحاربون دعوة من يدعو لإقامة دولة الإسلام. لماذا للكنيست أن تتوافق مع الكنيس، بينما تعلن البرلمانات وقصور الرئاسة الحرب على المساجد. لماذا يحضر الدين بقوة في حياة الشعب اليهودي وفي حياه القادة السياسيين، بينما إذا كان ذلك عند مسلمين فإنه يسمى الإسلام السياسي وتعلن عليه الحرب السافرة.
#شعب الله المختار وأمم شعب الله المحتار
هكذا هي النظرة الفوقية التي يتعامل بها اليهود مع غيرهم من شعوب الأرض بأنه الشعب الذي اصطفاه الله عن غيره من الشعوب، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنه لن يدخل أحد الجنة إلّا هم {وقالوا لن يدخل الجنة إلّا من كان هودًا أو نصارى} وأنه مغفور لهم أي عمل أو ذنب يذنبوه ولن يدخلوا النار أبدًا {وقالوا لن تمسنا النار إلًا أيامًا معدودات}. هذه النظرة الاستعلائية الفوقية وصلت إلى حد تجيير الله جل جلاله إليهم وكأنه سبحانه قد خلقهم ولم يخلق غيرهم، وفي الحد الأدنى من التواضع إنه كما قال الحاخام باربيل: “فإن الله سبحانه قد خلق غير اليهود حميرًا على هيئة بشر لخدمة شعب الله المختار”.
من هذه النظرة تعاملوا مع شعوب الأرض وأجناسها، وهي التي قادت بنتيجة حتمية إلى حالة رفض لهم، بل إنها قادت إلى أكثر من ذلك.
واليوم بعد سبعين سنة نجح قادتهم في بداية احتلال فلسطين بإضفاء الخلفية الدينية. هذا ما صرح به شمعون بيرس كبيرهم الذي علمهم السحر من ضرورة ألّا يحمل الصراع بين اسرائيل وبين العرب والفلسطينيين أي راية دينية عقائدية، بل يظل يرفع راية الصراع السياسي فقط، لأن هوية الصراع الدينية تعني حربًا عقائدية لن تخرج منها إسرائيل إلّا خاسرة.
ولكن وفي ظل المتغيرات الكثيرة في المنطقة وفي مقدمتها وجود أنظمة عربية وإسلامية تحارب الإسلام جهارًا نهارًا، وتعلن الحرب الاستئصالية ضد دعاته وضد كل من يدعو إلى الإسلام الوسطى الشمولي. وفي ظل تهافت هؤلاء من أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة لإقامة علاقات مع إسرائيل بدأت سرية وباتت علنية. في ظل هذا الواقع ومع حالة النفاق العالمية بالاصطفاف خلف إسرائيل ومشاريعها العدوانية، وإذا بقادة إسرائيل يتجرأون على إقرار وتشريع قانون يهودية الدولة بكل صلف ووقاحة وبكل وضوح باعتبار أن الدولة دولة اليهود فقط
إنني على ثقة أنه وإن كان ظاهر هذا السلوك هو القوة والصلف، لكنه يخفي حقيقة الارتباك والحيرة التي يعيشها حكام إسرائيل في ظل معرفتهم أن هذا الحال لن يدوم، وأن الحالة السياسية والأمنية هي مثل حالة الرمال المتحركة، وأن ما يصبحون عليه يمكن أن يكون عكسه مساءً، وأن أنظمة الحكم الفاسدة المتهافتة عليهم يمكن أن تزول وترحل بين عشية وضحاها، وما بداية ثورات الربيع العربي إلّا دليلًا وشاهدًا وأن مراكز دراساتهم وخبراءهم يعرفون أكثر من غيرهم أن حرب الأنظمة للشعوب هي خاسرة، وأن فارس الحلبة المستقبلي ليس إلّا الإسلام، وأن مسألة انتصاره هي مسألة وقت ليست إلّا.
إنها حيرتهم إذًا وقلقهم الذي يجعلهم ليس شعب الله المختار، وإنما شعب الله المحتار.
#يهودية الدولة، فلسطينية الأرض، إسلامية العقيدة
أما وقد اتخذتم قراركم، وقام برلمانكم بتشريع قانون يهودية الدولة وقد فرك بعض المغرورين أيديهم فرحًا وابتهاجًا، فإننا نذكركم بمنطق التاريخ الذي يجب أن يذكركم به منطق العقل، ولكن ولأن ساستكم قد طمس غرور القوة عقولهم وحيّدها جانبًا، فلم يعد تفكيرهم سليمًا ولا منطقيًا ولا عقلانيًا.
إنه منطق التاريخ الذي يقول إنه لا بقاء للدول، وأن صعود الدول وهبوطها ونشوءها واندثارها وزوالها هي مسألة وقت تتفاوت بين أشهر وسنوات، وقد تمتد إلى قرون وأكثر من ذلك، لكن التاريخ لم يسجل أبدًا البقاء والديمومة لدولة أيًا كانت. نعم تذهب الدول والأنظمة، وتتعاقب الشعوب {وتلك الأيام نداولها بين الناس}، لكن الذي لا يذهب ويبقى هي الأرض، وما ينزل من السماء هي العقيدة.
يا هؤلاء لو بقي الحكم لغيركم ما وصل اليكم. فسترحلون كما رحل غيرهم، ولا يغرنكم مصطلح ولا قانون يهودية الدولة. نعم ستذهب الدولة وشعارها وتبقى الأرض ويبقى الوطن، وتبقى هوية الوطن وعقيدته. أما هوية الوطن فإنها عربية فلسطينية، إنها أرض الكنعانيين واليبوسيين العرب. وأما العقيدة فإنه الوسم والشارة التي لا تنمحي، فبها دمغت وختمت هذه الأرض الحاضنة للمسجد الأقصى المبارك الذي جعله الله فيها من لدن آدم عليه السلام. فماذا تساوي يهودية الدولة مقابل عروبة وفلسطينية الأرض ومقابل إسلامية العقيدة والهوية.
نحن إلى الفرج أقرب، فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]