بقلم الشيخ كمال خطيب
في أوج وذروة هذه الجولة العاصفة من جولات الصراع بين الحق والباطل، بين الإسلام وبين أعدائه. هذه الجولة التي يستخدم فيها أهل الباطل وأعداء الإسلام كل إمكاناتهم في سبيل ومن أجل القضاء على الإسلام وبالضربة القاضية، ليقابلهم مسلمون يعانون ليس فقط من مكر الأعداء وإنما من خيانة الزعماء ونفاق علماء، لكن رغم ذلك كله ستبقى ثلّة الخير ورهط الإيمان يعضّون على دينهم بالنواجذ متمسّكين به، شعارهم في هذه المرحلة {وَلَمَّا رَءَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْأَحْزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّآ إِيمَٰنًا وَتَسْلِيمًا،مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} آية 32-33 سورة الأحزاب.
وخلال هذه الجولة ومع عنفوانها فإنك تظلّ تسمع تلك الأسئلة كيف ولماذا ومتى؟ كيف حصل أن المسلمين تراجعوا بعد تقدّم، وهزموا بعد انتصارات، وذلّوا بعد عزة، وتفرّقوا بعد وحدة؟ ولماذا سلّط الله عزّ وجل على المسلمين أعداءهم، ولماذا تسلّط الأذلاء على الأعزاء، بل ولماذا سلّط الله الكافرين والمشركين على المسلمين المؤمنين الموحدين؟ ثم السؤال الآخر يسأله كثيرون منا بل نسأله كلنا، متى سيتغيّر هذا الحال، متى سترفع عنا هذه الغمة، ومتى سيكون خلاصنا، ومتى ستعود للمسلمين عزتهم ووحدتهم ودولتهم؟
ولأن ما يحصل لنا في هذه المرحلة العصيبة فإنه قد حصل مثله وأصعب وأشد منه على الأمة في أكثر من مرة، وكانت هناك أجوبة لكيف ولماذا ومتى؟ كان يسألها المسلمون يومها مثلما نسألها اليوم نحن، ولعلّ من أقسى وأصعب ما مرّ على الأمة هو ذلك الحال الذي وصلت إليه مع احتلال التتار لبغداد وتسلّطهم على الأمة، حتى كان الخلاص منهم في معركة عين جالوت.
ومن أجل أن نجيب على السؤال كيف تسلّط علينا أعداؤنا ومتى سنتخلص منهم؟ فإن لمعرفة الجواب لا بد من الوقوف على الحوار الذي جرى بين ابنة هولاكو قائد التتار الذي احتل ودمّر بغداد وبين شيخ الإسلام ابن تيمية:
بينما كانت ابنة هولاكو تتجول في بغداد المدمّرة المنكوبة المحزونة وقد قُتل من أهلها مليونان من المسلمين وشرّد باقي أهلها، فكان أن سمعت ابنة هولاكو عن اسم يتردد على ألسنة كثيرين هو شيخ الإسلام ابن تيمية، فأمرت أن يأتي به إليها مقيّد اليدين والرجلين.
فلمّا كان في مجلسها دار بينها وبينه حوار، فسألته قائلة: عرفت أنك عالم من علماء المسلمين، قال: نعم. قالت: إن الله الذي تؤمنون به ونكفر نحن به يحبنا ولا يحبكم، وها هو قد نصرنا عليكم ولم ينصركم علينا، وخذلكم وسلّطنا عليكم، وهو أي ربكم الذي يقول “والله يؤيد بنصره من يشاء”.
قال ابن تيمية: أتعرفين راعي الغنم؟ قالت: ومن منا لا يعرفه. قال: أليس الغنم غنمه؟ قالت: بلى. قال: ألا يوجد لراعي الغنم كلاب تذهب معه إلى المراعي مع الغنم؟ قالت: بلى. قال: ما عمل الكلاب؟ قالت: تحرّش وتحرس له غنمه وتنبح وتعيد إليه الغنم الشاردة من القطيع إلى الحظيرة. قال ابن تيمية: إنه مَثَلنا ومَثَلكم كذلك، فالله سبحانه وله المثل الأعلى هو راعي الغنم ونحن غنمه وأنتم كلابه، فلمّا شردنا وتفرّقنا بعد أن شبعنا فإنه قد سلّطكم لتنبحوا علينا حتى نرجع إليه، فإذا رجعنا إليه فإنه سيكف أذاكم ونباحكم عنا كما يقول الراعي لكلبه إخص فيسكت ويلوي ذيله ويجلس جانبًا.
ما أكثرها الكلاب التي تسلّطت علينا في هذا الزمان وهي تنبح علينا بكل لغات العالم، وإنها الكلاب التي ما سلّطها الله علينا لهواننا عليه وإنما لتكون سببًا في إرجاعنا إليه. إنها الكلاب من كافة الأنواع والأجناس عربية وعجمية، شرقية وغربية فإنها قد سُلّطت علينا بإذن الله، ولأنها هيّنة على الله فما أسهل أن يرّدها الله عنّا ويخلّصنا منها ويرفع تسلّطها علينا فتنخرس ويسكت نباحها تمامًا مثلما يسكت الكلب إذا قال له الراعي، إخص…
إنها الكلاب التي ما سلّطت علينا إلا بعد تفرقنا والبطر الذي أصابنا بعد أن شبعنا وبعد الخيرات التي أنعم الله بها علينا، وإذا بنا “نبرطع” كما يبرطع الخروف حيث إذا شبع يبتعد عن القطيع فيرسل إليه الراعي الكلب ليرده بعد أن ينبح عليه. وإنني على ثقة ويقين أن الكلاب التي سلّطت على أمتنا سرعان وقريبًا ما ستنخرس وتهز أذنابها وتختفي في زوايا التاريخ، وإن هذا النباح لن نظل نسمعه ما دمنا رجعنا إلى الله سبحانه وإلى دينه مثلما لا يظلّ يُسمع للكلب نباح إذا قام بمهمته وأرجع الأغنام إلى راعيها، وأما نحن فإننا قد رجعنا فلذلك ستنخرس الكلاب النابحة:
نحن يا قدس رجعنا لإله العالمين
ومن الدين صنعنا عدة الفتح المبين
لقد فهم شيخ الإسلام ابن تيمية سبب تسلّط الكلاب على غنم الراعي إذ أنه لا يكون إلا بإذن الله تعالى، ولا يرفع إلا بأمر الله، لذلك فإنه ظلّ مطمئنًا واثقًا موقنًا بأن لزمن الكلاب نهاية وهو الذي قال: “ماذا يفعل بي أعدائي، إن نفيي سياحة في أرض الله، وإن سجني خلوة مع الله، وإن قتلي شهادة في سبيل الله”.
ومثل الإمام ابن تيمية في فهم قانون تسلّط الكلاب ونباحها، فإنه كذلك الإمام أحمد بن حنبل فقد فهم ذلك القانون من تسلّط أهل الهوى والباطل على أهل الإسلام والإيمان، ها هو وقد سجن في بغداد خلال ما سميت “فتنه خلق القرآن”، ولمّا بدأ الجلّاد بجلده بالسياط، قال الجلّاد للإمام أحمد: “كيف تزعم أنك على الحق وغيرك على الباطل وها أنا ذا أجلدك، فإذا كنت أنا من حزب الباطل فإن الباطل قد انتصر على الحق وظهر عليه وتسلّط عليه. فقال له الإمام أحمد: إن الباطل ينتصر على الحق ويظهر عليه لما ينجح بإخلاء القلوب من الإيمان واليقين والثقة بالله، ولما تفرغ القلوب من الإيمان والهدى، أما وإن قلبي ملازم للحق مطمئن واثق عامر بالإيمان فأنا المنتصر لا أنت”.
نعم إن بإمكان أهل الباطل وأعداء الإسلام وبما ملكت أيديهم من إمكانات رهيبة أن يجلدوا ظهورنا بالسياط وأن يقيّدوا أيدينا بالقيود، بل وأن يسجنوا أجسادنا في الزنازين، بل وأن يغيّبونا في القبور لكنهم مع كل ذلك خاسرون وفاشلون وخائبون ما داموا فشلوا ولم ينجحوا ولن ينجحوا في نزع الثقة واليقين من قلوبنا. إننا على الحق ما لم ينجحوا ولن ينجحوا من نزع الإيمان من قلوبنا.
إنه بلال رضي الله عنه الذي ألهبت سياط أبي لهب وأمية بن خلف ظهره وأثقلت الصخور صدره، ولكنه هو من انتصر عليهم وهو يقول: أحد أحد..الله أحد، وهو يقول: “إنك تملك القيد الذي به تقيّد يدي، والسوط الذي تلهب به ظهري، والرمح الذي تدق به صدري، بل والسيف الذي تطيح فيه بعنقي، لكنك أبدًا لن تستطيع نزع إيماني ويقيني بمحمد ﷺ”.
ومثل قول بلال في فهم قانون الانتصار، بل فهم قانون تسليط الكلاب فإنه شاعرنا وشيخنا الشيخ القرضاوي الذي قال:
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة أو نزع إيماني ونور يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي
وربي ناصري ومعيني
سأعيش معتصمًا بحبل عقيدتي سأموت مبتسمًا ليحيا ديني
إننا وفي هذه الجولة الحاسمة من جولات الصراع بين الحق وبين الباطل، بين الإسلام وبين أعدائه، وحيث يكثر نباح الكلاب علينا وما ذلك إلا بأمر الله سبحانه وحكمته، ففي هذه الجولة لا بد من الثبات على الموقف والوضوح في الهوية والتأكيد على الحق. وإذا كان البعض يظن أنه بسبب سطوة الباطل لا بد من أن نمشي الحيط الحيط ونقول يا رب الستيرة، أو أن ننحني أمام العاصفة أو أن نأخذ بالرخصة أو أن نستعمل أسلوب “التقية” أي أن نقول شيئًا ونضمر شيئًا آخر، فإن العكس هو الصحيح وهو المطلوب.
إنه الدرس كذلك نتعلمه من شيخ العلماء وإمام أهل السنة الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله لما نقل من سجن بغداد إلى سجن الرقة وقد دخل عليه بعض من نصحوه أن يأخذ بالتقية، فأبى الإمام أحمد ورفض ذلك قائلًا لهم: كيف تصنعون بحديث خباب بن الأرتّ لما جاء إلى النبي ﷺ فيما رواه الإمام البخاري قال: “شَكَوْنَا إِلَى رسولِ اللَّهِ ﷺ وَهُو مُتَوسِّدٌ بُردةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ فيجْعلُ فِيهَا، ثمَّ يُؤْتِى بالْمِنْشارِ فَيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجعلُ نصْفَيْن، ويُمْشطُ بِأَمْشاطِ الْحديدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر حتَّى يسِير الرَّاكِبُ مِنْ صنْعاءَ إِلَى حَضْرمْوتَ لاَ يخافُ إِلاَّ اللهَ والذِّئْبَ عَلَى غنَمِهِ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ”.
فيئس من حاولوا ذلك من أقارب الإمام أحمد بعد أن ختم حديثه لهم بالقول: “لست أبالي بالحبس ما هو ومنزلي إلا واحد”. أي أنه لا فرق بين أن أكون في البيت أو أكون في السجن إذا كان ثمن ذلك الحفاظ على عقيدتي وثباتي على ديني، لا بل إنه الذي استمر رضي الله عنه في بث رسائل القوة في الثبات على الموقف وعدم الانحناء لأهل الهوى وهو يقول جملته المشهورة: “ما سمعت كلمة منذ وقعت الفتنة والمحنة أقوى من كلمة أعرابي قال لي: يا إمام، إن يقتلك الحق متّ شهيدًا، وإن عشت عشت حميدًا فقويَ قلبي”.
نعم إننا أحوج ما نكون لمن يقوي قلوبنا ويقوي عزائمنا ويثبتنا ويبشرنا ويطمئننا. ما أحوجنا لمن يقول لنا: والله ليتمن الله هذا الدين، والله إن المستقبل القريب للإسلام. بل ما أحوجنا لمن يذكّرنا بأن الكلاب لن تظلّ تنبح علينا إلى الأبد وإنما سينتهي تسلّطها علينا لمّا يرى الله فينا الصدق في العودة إليه والوقوف على بابه والتمسك بكتابه وحسن الاقتداء برسول الله ﷺ، وعند ذلك فما أهون ولا أسهل على الله أن يخرس كل الكلاب كما ينخرس الكلب إذا قال له الراعي إخص..
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]