على حاجز رام الله – القدس في ساعة ما قبل الظهر, طابور لا ينتهي من السيارات الداخلة إلى القدس.
برد كانون الثاني يلسع الوجوه ويكسبها تقلّصا لا إراديّا, واستخفاف الجنود بالمارّين وتلذذهم الساديّ المريض بمعاناة المنتظرين لا يقابله إلا صبر عجيب من أفراد القافلة ! لم يقطعه سوى صافرة ضعيفة من إحدى السيّارات تنبّه الجندي المتشاغل بمشاكسة مجنّدة إلى فك اختناق الطابور! ما كان من الجندي إلا أن كشّر عن أنيابه ليجدها فرصة مواتيّة للإمعان في تعذيب الخلق وإهانتهم, أشار باستخفاف وغضب للسائق العجوز الذي لفّ رأسه بكوفيّة حمراء أن يعود إلى الوراء, وأتبعها بإشارة معناها كيف تتجرّأ ؟ ألا تخشى سلطتي ؟... ويبدو أنّ هذا العجوز لا يخشى سوى الله.. ولكنه انصاع لأوامر الجندي مضيّعا عليه فرصة ممارسة همجيّته المعتادة,وربّما مضيّعا عليه فرصة رائعة لإثراء صفحته الشخصيّة على"الفيس بوك" بصورٍ ترسم ملامح ساديته وهو يدوس آدمية الناس! ولكن الجندي نظر إلى صديقته الجنديّة مكتفيا في تلك اللحظة بنظرة إعجاب منها علّه يعوّضها خلال النهار بصيدٍ آخر يذيقه من العذاب ألوانا! فالنهار ما زال في أوّله وحاجات الناس لا تنتهي بين رام الله والقدس !
كلّ منهم يمسك بندقيته ويده على الزناد, إطلاق الرصاص على أيٍّ من المارّة أسرع من رمشة عين وأسهل منه تبريره فيما بعد لكلّ العالم الحرّ! الأمر المؤكّد هو أنّ عذابات الناس تسليتهم الوحيدة في هذا الحاجز,وهذه التسليّة يغذّيها فكرٌ عنصريّ مريض,وهذا الفكّر تعزّزه قافلةٌ من السياسيين ورجالات الدين وأغلبيّة ساحقة من هذا الشعب المتطرّف المتعاليّ والذي لم يتعلّم أدنى الدروس من تاريخ الإنسانيّة ومن تاريخه هو نفسه,وكلّ ذلك يظلّله "تفهّم" دولي من الدول التي تعتبر نفسها مدافعة عن حقوق الإنسان ... أه.. نعم باستثناء الإنسان العربيّ أو المسلم, فهو أصلا بنظر رجالات وحكومات تلك الدول لا حقوق له في أي شيء فوق الأرض ولا تحتها أحيانا!
عودة إلى الحاجز... اجتزناه بعد مصادرة مؤقّتة لبطاقات الهويات وفحص ذاتي للسيارة ومحتوياتها ومحاولة حقيرة بائسة لمصادرة الكرامة الإنسانيّة لم تزدنا إلا كرامة استلهمناها من طفلين أحدهما يبيع البالونات والآخر يبيع الفوط الورقيّة يدوران بين السيّارات ينظران نحونا من وراء زجاج النافذة... يا ألله أيّ قوّة تعكس عيناهما؟! كان في وجهيهما الكثير من الملامح ... الحزن,الشقاء,الطفولة المسلوبة والكثير من الكرامة والثبات... طفلان أعزلان إلا من حفنة إيمان وكرامة ويقين أنّه...
إذا اعتادَ الفتى خوضَ المنايا فأهونُ ما يمرّ به الوحولُ.
وما أن مشت بنا السيارة عدّة أمتار عن الحاجز حتّى تجلّى أمامنا الجندي الإسرائيليّ بأبهى حلّته! لقد انهمك اثنان منهما في "مهمّة أمنيّة قوميّة من الدرجة الأولى" !! فقد أوثق بعض العمال الفلسطينيين دراجاتهم الهوائيّة القديمة البسيطة بعد الحاجز بعّدة أمتار على أن يعودوا إليها بعد انتهاء دوامهم ربّما في المساء لتنقلّهم إلى بيوتهم في القرى المجاورة, وها هو أحد الجنود ينحني على الدراجة بآلة حادة ليفرغ إطاراتها من الهواء وضحكة قذرة ونظرة خبيثة ارتسمتا على وجهه, في حين وقف الآخر وقد أحكم يده على بندقيّته ينظر إلى زميله بإعجاب !
انطلقت السيّارة تطوي الطريق نحو يافا, وفي القلب ألم وفي العين دمعة وصورة العامل الذي ستنقطع به سبل العودة إلى قريته بعد انتهاء دوامه تتراقص في مخيّلتنا, لم يخفّف وطأتها سوى عيون الطفلين البائعين وما فيهما من شمم وعزّة ولسان حالهما يقول:
وما من يدٍ إلاّ يدُ اللهِ فوقها ولا ظالم إلاّ سيُبلى بأظلمِ
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]