بمناسبة ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم , أود أن أتوقف معكم أيها المسلمون , مع آية حدد الله عز وجل فيها الغاية من بعثته صلى الله عليه وسلم , وهي قوله تعالى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين , سورة الجمعة.
يتلو عليهم آياته , ليعرّفهم بالله بربهم بخالقهم برازقهم ويربطهم به , ويزكيهم أي يطهرهم , يطهر قلوبهم ونفوسهم من الكبر والحسد والحقد وغيرها من أمراض القلوب , ويطهر عقولهم من الشرك والخرافة , ويطهر أبدانهم وبيوتهم ويطهر مجتمعاتهم من الآثام والمعاصي وعادات الجاهلية.
ويعلمهم الكتاب والحكمة , أي القرآن والسنة , هذه هي فحوى رسالته صلى الله عليه وسلم , يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.
نفس الآية ونفس الترتيب ورد في سورة آل عمران يقول الله تعالى : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة , وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
في الآيتين يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة , الفرق بين الآيتين جاء في قوله تعالى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم في آية الجمعة , وفي آل عمران قال : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم.
صيغه ثالثه وردت في سورة البقرة مع اختلاف في ترتيب لفظ ويزكيهم , يقول تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم , في الآية الأولى والثانية قدم لفظ التزكية يتلو عليهم آياته ويزكيهم , وفي الآية الثالثة أخر لفظ التزكية , يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم , تغير الترتيب في الآية الثالثة له حكمه بالغه , فهي جاءت على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم انك أنت العزيز الحكيم , سيدنا إبراهيم أخر التزكية وقدم عليها تعليم الكتاب والحكمة أي(ألسنه) والله عز وجل قدم التزكية على تعليم الكتاب والسنة , وكأن الله تعالى أراد أن يقول لنا إن تعلُم الكتاب والسنة لا يتحقق إلا بعد التزكية , وان تعلُم الكتاب والسنّة من دون تزكيه لا قيمة له , وذلك كما في قوله تعالى : قد افلح من تزكى , وذكر اسم ربه فصلى , قدم التزكية على العبادة لان التزكية شرط لصحة العبادة وقبولها , لذلك قدم الله التزكية على معرفة الكتاب والسنة في الآيتين المذكورتين , والتزكية تعني إلى جانب الطهارة الحسية , الطهارة المعنوية , تعني النقاء تعني الصفاء نقاء القلب وصفاء النفس والروح , تعني العفة تعني التراحم والتعاطف , تعني الاستقامة تعني الفضائل كلها , فأي مؤمن لم يزك نفسه لا فائدة من ايمانه , ما فائدة الإيمان وما فائدة المعرفة بالكتاب والسنة والأحكام الفقهية إذا كان المؤمن سيء الخُلُق.
كم هم حفظة القرآن في العالم الإسلامي عشرات الآلاف أو يزيدون , وحفظة الحديث لا حصر لهم , وعلماء الفقه والأصول لا عد لهم , هذه الأعداد الضخمه من الحفظة والعلماء , لم تحدث نهضة ولا تقدما علميا , ولم تغير واقعا , ولم تحرر أرضا ولا مسجدا كان يوما قبلة المسلمين , ولم تستطع توحيد كلمه ولا صف , ولا حتى إحداث مصالحه بين فئتين من المسلمين يكفّر بعضهم بعضا ويقتل بعضهم بعضا, ولا بين فصيلين من فصائل المقاومة , فضلا عن دفع العدوان ورفع الظلم عن المسلمين المقهورين في شتى بقاع الأرض , إن شهوة الحكم وشهوة الشهرة وشهوة المال وشهوة التسلط وغيرها من شهوات النفس هي التي تشغل القادة والحكام المسلمين عن هموم شعوبهم , التزكية هي التي تضبط هذه الشهوات هي التي تلجمها وتهذبها , لذلك الفلاح معقود بتزكية النفس كما قال تعالى: قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها , وفي موضع آخر قال : قد افلح من تزكى , إهمال التزكية يؤدي إلى التسيّب والانفلات الأخلاقي , فما من فساد على وجه الأرض أيا كان شكله أو نوعه إلا دافعه شهوة النفس , النهضة العلمية والتقدم الحضاري الذي نشهده في العالم لم يحد من انتشار الفساد على مستوى الأفراد والدول , لذلك الإسلام جعل التزكية مقدمه على حفظ القرآن والأحاديث والفقه والأحكام , وجعل الأدب مقدما على العلم ولعل هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق , فإسلام من دون تزكيه مجرد اسم بلا مسمى لا معنى له , وشكلٌ بلا مضمون , إسلام من دون تزكيه هو مجرد ثقافة من الثقافات , ونخشى أن يتحول الإسلام بغياب التزكية إلى طقوس دينيه والى عادات وتقاليد.
سعيد سطل ابو سليمان
6 ربيع أول 1434
بامكانكم ارسال مواد إلى العنوان : [email protected]